أنت هنا

كتاب - "جميلات منتصف الليل" لحنان درقاوي: المال مقابل الجمال إلى أين؟

كتاب - "جميلات منتصف الليل" لحنان درقاوي: المال مقابل الجمال إلى أين؟

تغوص الكاتبة المغربية حنان درقاوي في روايتها "جميلات منتصف الليل" في المسافة الخطرة المتأرجحة بين حصار الرغبة والتزامات العفة، لترصد مزالق الكبت الجنسي وجذوره المتناسلة تخلفا وعنفا أصوليا يلتهم النسيج المغربي، حيث تعبر شخصياتها النسائية الكثيرة بمرونة صاخبة في طبقات القهر والتهميش، لتلتقي بأحلامها المجهضة، ما يجعل روايتها صرخة أنثوية جارحة، تناشد نفوسا ميتة استكانت في تصلبها.

تعود الأحداث إلى بداية الألفية الثانية، وتعنون الفصول بأسابيع الحمل، في إشارة إلى اللمسة الانثوية التي تستبطن النص وتسوقه بحنان جارف يتجذر في التعاطف الإنساني. تبدو رحلة درقاوي مع نصها، البعيد كليا عن كل أشكال الإدانة والتنظير المجاني، أقرب إلى البوح الجريء منه إلى الحوار الداخلي الذي يتخلل حكاياتها المؤلمة.
تدور فكرة الرواية حول مأزق طالبة جامعية تدعى صليحة تتورط في حياة الليل الجامحة، لتجد نفسها تحمل جنينا غير مرغوب به. تثير مسألة الاحتفاظ به أو اسقاطه اشكالات شتى، اقلها الذبح، وأعظمها انتهاك حرمة الحياة الإنسانية وفق المنظور الديني الأخلاقي. فالاحتفاظ بالجنين يعني الهرب والتخفي والعيش خارج مدارات الأسرة والقبيلة، تالياً اللجوء الى جهة حيادية تؤمّن الحماية للأمهات العازبات، وتتمثل هنا في جمعية "أرض الرجال". في هذه الحال تفقد الشابة فرصتها النادرة في تكوين أسرة طبيعية ضمن مؤسسة الزواج، وتحكم على طفلها بحياة اجتماعية مجللة بالعار. أما محاولة إسقاط الجنين فتعني تهديدا مباشرا لحياة الأم في ظل أزمة البطالة المتفاقمة وسوء الأوضاع المعيشية، ما يجعل تكاليف الإجهاض عالية، وخصوصاً للفقيرات اللواتي يقعن ضحية الابتزاز المادي للقابلات، إضافة إلى جشع الأطباء، الذين يمارسون الطبقية والاحتقار تجاه الطبقات المعدمة والمهمشة.
تتوقف صليحة مليا للتفكر في حياتها، بينما تنتظر مساعدة مالية من زميلات الدراسة، مما يسهل على درقاوي تعرية الفساد الاخلاقي في المجتمع وتقصي دوافعه، واهمها الفقر المدقع الذي يسحق السواد الأعظم من الشعب المغربي، فترتفع نسبة العنوسة بين الملتزمات، وتتفشى الدعارة المقنّعة بين الجامعيات. ولأن الجهل يكون دوما مترافقا مع الفقر، تغدو الفئات الشعبية بيئة حاضنة للأصولية الإسلامية، التي تسعّر الرغبات الجنسية وتفرخ العنف والقسوة وسفاح القربى كنتيجة مباشرة للانغلاق والتشدد. وهذا سبب أساسي في تمرد الفتيات المغربيات، وإدمانهن الأحلام الرومنطيقية، التي تتصادم مع الواقع عند أول احتكاك، فتغدو الرفاهية الموقتة التي تؤمّنها الدعارة المقنّعة، حلا مثاليا للاقتراب من حياة المرفهين، وتصبح مقولة "الجمال مقابل المال" اختزالا صادقا لاستلاب الكرامة الإنسانية، ومؤشرا مكملا لمقومات الانهيار المجتمعي الكامل. تبدو صليحة نموذجا ممتازا لتجسيد هذه الحال الحرجة بين تبادل المتعة والانتقام من حياة القهر والكبت والعنف، مع ما يرافقها عادة من أخطار وانتهاكات مخزية، تتجاوز الحالات الفردية لتتوقف عند حشود المنحرفين الذين يفرغون كبتهم تحت نوافذ المدينة الجامعية على مرأى فتيات اكثر كبتا منهم. يكمن الأسوأ بين الجدران الداخلية، حيث تتطور حكاية الأخ المدمن الأفلام الجنسية، وافتتانه بجسد أخته صليحة، إلى إدمان الكحول والقسوة المفرطة تجاه الجسد المحرم، ليوسوس أئمة الأقبية بحتمية ستر الجسد العورة. يأتي عرض الزواج من عامل مصبغة كحلّ، يتبدد سريعا بهرب صليحة، مما يؤجج صراع الشهوة لتنتهي بطعنة سكين غادرة.
تبرع درقاوي كثيرا في وصف صدمة الانتقال من رومنطيقية الأحلام الى قسوة الواقع. وتبرز تفاصيل الفراغ المتأتي من انكماش العلاقات الأسرية ودخولها في دائرة الاستلاب المادي والسياسي والديني. بداية بصليحة، ابنة البواب التي تحلم بالانتقام من حياة الحرمان، فتؤسس شخصيتها حول أسطورة الرجل المخلص. التعامل غير الناضج مع مسألة البلوغ، ؤجج الرغبات المكبوتة فتتراجع القدرة التركيزية وتغلف القسوة والشكوك ما يتبقى من مراهقتها، فتنساق في حياتها الجامعية وراء الشهوة المهدهدة بحلم الزواج، التي تتحول تدريجا إلى مقايضة رخيصة على العلامات مع الأستاذ الجامعي، وانسياقا لدعوات التحرش الجنسي في الكلية والشارع والمقاهي. في المقابل تنجح زميلتها أمينة في تحقيق موازنة بين حلمها بالثورة التي ستقلب الملكية جمهورية، وبالأمير الذي سيقتلعها من فقرها واحلامها المتعبة. ويبقى هذان الحلمان يتعايشان في داخلها بشكل طبيعي، إذ تدرك مبكرا ان جمالها يليق بأمير حقيقي يمنحها الحياة التي تستحقها. من جهة اخرى كانت تعرف ان الملكية تنهب اموال الشعب، وان الحسن الثاني ديكتاتور تسبب بسنوات الرصاص وتعذيب الناس واختطافهم وارسالهم الى معسكرات سرية. وبينما تعتمد صليحة ازدواجية السلوك، تشارك أمينة في التظاهرات والاحتجاجات الطالبية، التي تناهض المخطط الاصلاحي الهادف إلى حرمان الطبقات المسحوقة من حقها في التعليم.
لئن تظهر الحاجة كمحفز مباشر للدعارة، فإن بيع الجسد يوازي تماما بيع خميرة الحياة للعسكر. فنجية ليست كمعظم الطالبات اللواتي يصادر الآباء منحهن الدراسية، بل تمتهن الدعارة رسميا إثر عودة والدها من مواجهة عسكرية خاسرة أفقدته عقله. وتقدم الحشيشة هدنة مع الواقع حيث تطوف صليحة مع أصدقائها في مسارات عالم يختفي فيه الألم والحرمان، ويتساوى الناس في الحق والسعادة. ويرتسم التضامن بين النساء حلا وحيدا للخروج من وضعيات الفقر والعنف. وحين يعجز هذا التعاطف الإنساني عن إتيان معجزة الخلاص لصليحة، تبيع جسدها لعجوز متصاب مقابل اربعمئة دولار، ثم تتخلى عن دراستها وتدخل عالم الليل الاحترافي، وتضع نفسها في قلب معادلة المال مقابل الجمال، معادلة جميلات منتصف الليل.
يجيء استخدام درقاوي اللغة العارية البعيدة عن الرومنطيقية موازيا للغة العنف المتغلغلة في المجتمع المغربي. وضمن الاسلوب المباشر الخالي من التفافات الجمل المركبة، تضع حقيقة الانتهاك الجنسي المتزايد عارية بلا تجميل، بحيث تجعلنا نتوقع شكل الحياة التي تنتظر الجيل الشاب مع تزايد موجات التكفير المقترنة بهوس السبايا والمحظيات.

المصدر : جريدة النهار 

الناشر: 
eKtab

أخر الأخبار

يسرقون الصيف من صندوق الملابس نزار أبو ناصر

يسرقون الصيف من صندوق الملابس

نزار أبو ناصر

 

صدر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021 ديوان " يسرقون الصيف من صندوق الملابس" للشاعر نزار أبو ناصر.

 منذ أعماله الأولى والشاعر نزار أبوناصر يطرق باب...

تاريخ فلسطين الحديث د. عبد الوهاب الكيالي

تاريخ فلسطين الحديث

د. عبد الوهاب الكيالي

 

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021 كتاب " تاريخ فلسطين الحديث" - تأليف د. عبد الوهاب الكيالي . هذه هي الطبعة الثانية عشرة من الدراسة الجادة والشاملة لتاريخ فلسطين...

لأول مرة كتب عربية وانجليزية رقمية في مكان واحد وفي مكتبة واحدة متاحة للجميع

تعلن شركة ektab عن توفيرها 70,000 كتاب باللغة الانجليزية لمستخدميها مجاناً عبر موقعها الالكتروني www.ektab.com

اطلقت شركة  “اي كتاب” 70,000 عنوانا باللغة الانجليزية من شتى...