أنت هنا

مقال نقدي

مقال نقدي

جلنار زين: والعودة إلى القصة القصيرة جدا 
* إبراهيم خليل*

على الرغم من أن القصة القصيرة جدا قد وصلت إلى طريق مسدود بسبب الإفراط في التكثيف، والوقوع في التكرار، وخلو النصوص من مقومات فنية بديلة لتلك التي تميزت بها القصة القصيرة(الكلاسيكية) على مدى العصور؛ من حدثٍ، وشخصية، ومن زمن تقع فيه الحكاية، ومن لحظة تأزم، فلحظة تنوير، فوجهة نظر، ومشاهد تضع القارئ في أجواء سردية شيقة ترتقي به سلالم من الدهشة، على الرغم من هذا، ومن غيره، مما سبق لي أن أشرت له ونبهت عليه في دراسة لي سابقة تناولت فيها بعض أعمال القاص الفلسطيني محمود شقير، على الرغم من هذا كله، فقد استرعى انتباهي ابتعاد القاصة جلنار زين في قصصها القصيرة جدا الموسومة بالعنوان " صانع الظلال " عن التكرار النمطي الذي تعابُ به القصة القصيرة جدا، وقد وجدت في مجموعتها صانع الظلال (الآن للنشر والتوزيع، عمان، 2015) قصصا تنحو فيها منحى يختلف عن ذلك الذي آلت إليه القصص الموسومة بالقصيرة جدا.
ومن بين القصص التي تتضمَّنها المجموعة قصص لافتة للنظر، كقصة (بريق) (ص7) ، وقصة " الحذاء " (ص 37) وقصة " قناص " (ص 38) وقصة " نمور تامر " (ص40) وقصة " براءة " (ص41) وقصة " أحلام صغيرة "(ص36) وقصة " أنوثة " (ص 27) وقصة " قارئة الفنجان " (ص 25) وقصة " ألف ليلة " (ص16) وغيرها.. مما لا ضرورة لذكره، ولا لاستقصائه وحصْره.
ففي قصة " بريق " يستمع القارئ لمن يروي مخاطبًا من يروى له، أو عليه، بما كان من شأن الفتاة، أو المرأة التي تدور حولها القصة، فقد كانت معجبة به جدًا، وتتمنى الاقتراب منه، لكنها تخشى ذلك تجنبًا لأي احتمال بالخيبة المرة. والرجل يسأل: أنا؟ وفي المشهد التالي يستمع القارئ لصوت المرأة تروي ما كان منه، فبعد أن اقتربت نحوه يدفعها إليه ذلك الإحساس اللذيذ بالسريان، يفجعها بصوته المخيّب: أوووووووه. آسف. لم تكوني المقصودة. في منتصف الطريق تقف حائرة فهي لا تستطيع المضي في الاقتراب، ولا تستطيع الرجوع، ومن هنا يأتي الشعور العميق بالإحباط لدى تلك المرأة، فقد اطفأ في عينيها ذلك البريق، وراحت تتحسس كومة الرماد في صدرها (ص7) بعد أن احترقَ قلبها بنار صدوده. 
ما بين الصعود والهبوط، وهما نقيضان، تتأرجح مشاعر المرأة في مفارقة درامية تقدم الفاجع على العادي، والمألوف. وهذا يدع القصة القصيرة جدا تكتسب بعدًا تأثيريا لدى القارئ يتسم بالسرعة، والقوة، خلافا للقصة التقليدية التي تشقُّ طريقها للتأثير في القارئ عبر طرائق متعددة، ودهاليز لا تخلو من الالتواء، والتمدد أحيانا، مما يجعل الإحساس بالصدمة هنا، والشعور بها، أقل عنفا من هذه الحال التي وجدناها في قصة جلنار زين.
أما في قصة الحذاء (ص37) فلا تبتعد بنا الكاتبة عن موضوع الرغبات المحبطة، والأحلام التي تبددها اليقظة. فنحن نستمع في بداية القصة لواحد من اثنين يشتري أحدهما حذاءً رياضيًا جديدًا، ويقوم بعرضه على أخيه، مؤكدًا أنه جمع ثمنه بعد لأي. والأخ يثني على الحذاء، فهو (جميل) ويعلن الأول أنهما شريكان فيه، بشرط ألا ينتعله أيٌّ منهما إلا في مناسبة جديرة بحذاء رائعٍ كهذا. وعلى نحو مباغتٍ تنقلنا الكاتبة إلى مشهد تلفزيوني يظهر فيه الحذاء ذاته، وقد تدلى من جثة ملفوفة، فحدق في الجثمان ليكتشف أن أخاه ارتدى الحذاء لمناسبة جديرة بارتدائه، وهي الاستشهاد في ساحة النضال الوطني. وبكلمة واحدة تلخص الكاتبة جلنار زين مغزى هذه القصة القصيرة جدًا، وهي كلمة " شهَق " (ص37).. التي تنتهي بها القصَّة. فهل كان الأخ يتوقع هذا؟ بالطبع لا، لأن التصرف الذي ندَّ عنه في ذلك الموقف تصرُّفٌ ينم عن أن ما وقع وجرى لم يكنْ في الحسبان. وليت الأمر يقتصر على فقدان الحذاء الرياضي البديع، ولكنه أيضًا فقدانُ الشهداء الثلاثة الذين تسللوا فجرًا، وأثخنوا العدو بالجراح، واستشهدوا دون أن تعرف هويّاتهم. وتلك هي المفارقة، فالأخ تعرف على جثة أخيه الشهيد بسبب ذلك الحذاء، فاي موقف فاجعٍ هذا؟
وأما المفارقة في قصة " أحلامٌ صغيرةٌ " فتبدو في جمع الكاتبة جلنار زين بين لفظي: صغيرة وكبيرة. ففي العنوان أحلام صغيرة، لكن الفتى الحالم باللقمة الطيبة، والقلب المحبّ، والوطن الآمن.. يختنقُ بحلمه، لأن حلمه لم يكن في نظر الأقدار حلمًا صغيرًا، بل كان كبيرًا حد الاختناق. فعندما داهمته نوبه من السعال إثر غصة في الحلق، ونقل على إثرها للمستشفى، فارق الحياة على الفوْر، وعندما سئل رفيقه عن سبب الوفاة، قال: " لقد كان حلمهُ كبيرًا، فاختنقَ به " (ص36) هذا الصبيُّ الذي لا يجد ما يتناوله في الغداء سوى كسرة من الخبز وحبّة من الطماطم، لسوء حظه يقترح على صديقه أن يَحْلم، ويذكر ما يحلم به ليغصّ في الأثناء، ويفارق الحياة، بسبب ذلك الحلم الكبير، الذي بلغ من الإفراط حدّ التحول من الحلم إلى كابوس. فهو، أي: الفتى، ينتمي لفئة من الناس يَحْرُمُ عليها الحلم، فإذا تعدت هذا الخط الأحمر، كانَ مآلها الفناء، ومصيرُها الموْت.
وهذا المغزى في الحكاية القصيرة المكثفة يحقق ما تحلم به الكاتبة من: بناء نصٍّ يجمع بين القصة بمفهومها التقليدي، والقصة القصيرة جدا، بما تطبع عليه من ميل جليّ للاختزال، والتكثيف، والاكتفاء باللمحة السريعة عوضًا عن التفاصيل ذاتِ الإيقاع البطيء. وهذا النوع من البناء نجده أيضًا في قصة بعيدة عن هذه الأجواء، وهي قصة " أنوثة " (ص27) ففي هذه القصة يروي لنا الراوي أنّ المرأة المعنية بالأنوثة ها هنا تستعد للخروج بعد أن اتخذت ما تتخذه في العادة من الزينة، والطيب، حتى إن العيون المعجبة تلاحقها في الطريق، وسائق السيارة، الذي يتمنى جلوسها في المقعد الأمامي، يلاحقها بنظراته في المرآة. ومكتبها في الشركة يمتلئ بالزملاء المتذرِّعينَ بذرائع كثيرة لزيارتها، والاستمتاع برؤية جمالها الصارخ، فتقول في نفسها: يا سبحان الله! وهذه العبارة تتضمّن في ثنايها، وفي جُروس أصواتها، مشكلة تعيشُها هذه المرأة، والقارئ لا ينتظر كثيرا للتعرف على تلك المشكلة، ففي المنزل ثمَّة من لا يعير ذلك الجمال الصارخ أيَّ اهتمام، وقد لا يدرك ذلك الجمال أساسًا: " تدلف إلى الداخل.. تنظر إليه ، وهو يتكوَّم على الأريكة، لا يلتفتُ إليها، تهزُّ رأسَها أسىً، وهي تراقبُ ظلها يتلاشى، ويجرّها معه ! " (ص27) والمفارقة تتبدَّى، وتتجلَّى، في أن الثقة بالنفس التي يمنحها لها المعجبون سرعان ما تصبح عبئا في المنزل، وظلا يتلاشى في تعبير رمْزيٍّ عن تلاشي تلك الثقة بأنوثتها الساحرة، وهذا ما يُفْصح عن موقف يَصْدم القارئ الذي لا يتوقعُ- بالطبع - مثل هذه النهاية لذلك الوصف المبالغ به لسحر هذه المرأة.
وهذا في حقيقة الأمر يقرّب قصص جلنار زين من الفنّ الحقيقي، الفن الذي لا تنقصه الأصالة، ولا يفتقر لقواعد الإبداع، فهو لا يقول ما يقوله مباشرة، بل يعمد للظلال، والإيحاءات، والوميض الخاطف الذي يلقي بالضوء على الزوايا المُعتمة، والمُظلمة، من حياة الشخصية القصصيّة، والنموذج الإنساني. فالظاهر أنّ هذه المرأة في وضع تحْسَدُ عليه كثيرًا، ولكنها في الواقع تحيا في ظلمةٍ تحيل بيتها إلى جحيم غارق في البؤس، وتخيم عليه ستائر الإخْفاق..والإحباط. 
والسّمة اللافتة في قصص جلنار التنوُّع على مستوى الفكرة التي تنسج من أجلها الحكاية القصيرة المكثفة، ففي قصة لها بعنوان " قارئة الفنجان " – والعنوان لا علاقة له بقصيدة نزار قباني المعروفة- تمضي بنا الكاتبة في طريق آخر غير الذي عبَّدتْه في القصص المذكورة. فقد أرادت التعبير عن أنَّ في حياتنا الكثير من الزيف الذي يؤمن به الكثيرون منا، ويعدونه كالحقائق التي لا يأتيها الباطل من أمام، أو من خلف. فنحن إزاء صديقتين تزور إحداهما الأخرى، وتستقبلها بالترحيب كالعادة، ثم تحتسيان فنجانين من القهوة، وقبل المغادرة تقترح الزائرة على صديقتها أنْ تقرأ لها الفنجان، فتؤكد لها الأخرى أنها لا تؤمن بقراءَة الطالع، ولا بالحَظّ. فتصر تلك الزائرة على ممارسة هوايتها من باب التسلية حتى وإن كانت صديقتها لا تصدق شيئا مما تقوله عن المكتوب في الفنجان. ونلاحظ أنَّ هذا المشهد العادي ينتهي بمفاجأة لا يتوقعها القارئ، فبعد أن تتعجب القارئة من سوء فأل الفنجان، وأنها لم تقرأ أسوأ منه في حياتها الطويلة، وبعد أن تؤكد لصديقتها أنّ الكوارث والمصائب ستنصبُّ على رأسها ورأس عائلتها بالجُملة، وبأنها ستموت ميتة بشعَة، تفجأها الصديقة قائلة: ولكن هذا فنجانكِ أنتِ (ص25) .
صحيحٌ أنَّ مثل هذه المفاجأة لا يتوقعها القارئ، ولكن هذا لا يعني أنَّ النهاية في القصة- على قصرها- نهاية مفتعلة، وفرضت عليها قسرًا لا يخلو من تعسُّف. إذ من الطبيعي أن تخالف توقعات القارئ توقعات الشخصية في القصَّة، أو في الرواية، ولكنْ، هل هذا الاختلاف يُفقد الحكاية قيمتها الإعلامية؟ بالطبع لا، لأن الغاية من هذه القصة، أصلا ،هي أن تقول لنا الكاتبة: إن قراءة الفنجان لا تعدو أن تكون نوعًا من الخزعبلات، وبما أنها كذلك، فليس من المستبعد أنْ يكون كل ما تقوله الزائرة عن الفنجان من اختلاقها هيَ، وهذا يؤكد أنّ قراءة الطالع، ومعرفة الحظ، عن طريق الفناجين، وغيرها.. شيءٌ لا ينبغي للعقلاء أنْ يؤمنوا به، ويطمئنوا إليه، فهو تسلية لا أكثر. وتمْضي بنا الكاتبة في طريق آخر غير هذا الطريق. مستعيدة في قصة قصيرة جدًا عنوانُها " ألف ليلة " كلا من شهريار مضطجعًا على سريره الوثير. وشهرزاد تواصل سرد حكاياتها الألف على مسامعه، فتروي له حكاية جديدة عن مكتشف النار، وهوَ هنا الرجل، وأصل الكلام، وهو هنا المرأة. وبهذه القصة، شديدة التكثيف، تعيد الكاتبة النظر في سلسلة من الحكايات العربية، مؤكدةً أن شهرزاد، كغيرها من النساء، اخترعن الكلام بعد أن فقدن القدرة على استخدام الإشارات في ذكرهن معايب المرأة. وهذا موقفٌ لا يخلو في الحقيقة من السخرية، والبليغ في الأمر أنَّ هذه السخرية تصدُرُ من امرأة حكاءَة كشهْرزاد.
ولا تخلو قصص جلنار زين من نماذج تشوبها مظاهر القصة القصيرة جدًا المتكررة التي حذَّرنا منها، ومن سلبياتها، في مستهل هذه المقالة. ففي حكاية لها بعنوان " زمن " (ص36)لا تكاد تبدأ الحكاية، أوالقصة، حتى تنتهي. فأحدُ الأشخاص يتمنى أن يعودوا- هو ومن يحاوره- لذلك الزمن الجميل، فيقول له آخر: تقصد عندما كنا لطفاء، والدنيا بخير؟ فيجيب: لا، أقصد عندما لم نكن نعلم بما يدور حولنا. فالعبارة الأخيرة تعنى الطفولة المبكرة، أو الجنون، فالذي لا يدري ما يدور حوله، إما أنه طفل حديث الولادة، أوْ مجنون. ومثل هذه القصة لا تختلف عن أي فكاهة يتبادلها المتحدثون بعضهم مع بعض من باب التنكيت. وفي المجموعة منْ هذا غيرُ قليل، يتضح ذلك لمن يوازن هذه القصة مقارنةً بقصص أخرى مثل براءَة (ص41) أو نمور تامر(ص40) التي تتضمَّنُ خطابًا سرديًا ينسجم مع قصة أخرى لزكريا تامر بعنوان " النمور في اليوم العاشر ". فالمُروِّضُ الذي يجمع بين صفتين، هما: المعلم والمروض، يلقي على تلاميذه بسؤال بعد قراءة القصة، والسؤال هو: إذا كان ترويض النمر ليغدو حيوانا أليفا مثل نمر من ورق قد تطلب عشرة أيام، فكم يومًا يحتاج ليعود إلى سابق عهده إذا أطلق من القفص؟ 
ويختلف التلاميذ في تقدير عدد الأيام؛ فبعضهم يجيب زاعما أن النمر يعود إلى سابق عهده فور خروجه من القفص. وبعض التلاميذ يجيب عشرة أيام، وهي المدة التي استغرقها تدجينه، وتحويله إلى ما يشبه القط الأليف. وزادت الإجابات كثيرًا، وتباينتْ، لكنَّ المعلم لم تعجبه إلا إجابة واحدة من تلميذ تأخر في رفع يده، فقد قال التلميذ: " أنا أقطع بأن هذا النمر لن يعود أبدًا إلى سابق عهده.. فإنْ حدث وتحرر، فإنَّ الأمل معقود على ذرِّيَّته لا عليه. "(ص40) وهذا الجواب يثلج صدر المعلم الذي يغرق في الابتسام حتى يتشقق وجهه، وتبرز من تلك الشقوق ملامح من يروّض النمور لتصبح غير قادرة على الرجوع لما كانت عليه قبل الترويض. فالكاتبة لم تكتفِ باستعادة الظلال التي تتسم بها قصة النمور في اليوم العاشر، وإنما أضافت إليها ما يمكن أنْ يُعدَّ انقلابا جذريًا في محتوى خطابها السردي، تتجاوز فيه الإدراك الآني لوضع النمر إلى الاستشراف، والتنبؤ، بما يوحي به هذا- على المستوى الرمزي - من أنَّ الذي يفقد الإحساس بالحرية تمامًا من العسير عليه أن يستعيد ذلك الإحساس، فهو يدمن الخضوع، والركوع، حدّ الاستكانة. ومن يقرأ هذه القصص يدرك أنَّ القصة القصيرة جدًا يمكن أن تتضمن مواقف مركبة، وشخصياتٍ، وعقدًا، ولحظاتٍ متوتّرَة، ونهاياتٍ لا تخلو منْ مفارقاتٍ، وبناءً لا تنقصُه البراعة، والإمْتاع.

 

الناشر: 
eKtab

أخر الأخبار

يسرقون الصيف من صندوق الملابس نزار أبو ناصر

يسرقون الصيف من صندوق الملابس

نزار أبو ناصر

 

صدر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021 ديوان " يسرقون الصيف من صندوق الملابس" للشاعر نزار أبو ناصر.

 منذ أعماله الأولى والشاعر نزار أبوناصر يطرق باب...

تاريخ فلسطين الحديث د. عبد الوهاب الكيالي

تاريخ فلسطين الحديث

د. عبد الوهاب الكيالي

 

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021 كتاب " تاريخ فلسطين الحديث" - تأليف د. عبد الوهاب الكيالي . هذه هي الطبعة الثانية عشرة من الدراسة الجادة والشاملة لتاريخ فلسطين...

لأول مرة كتب عربية وانجليزية رقمية في مكان واحد وفي مكتبة واحدة متاحة للجميع

تعلن شركة ektab عن توفيرها 70,000 كتاب باللغة الانجليزية لمستخدميها مجاناً عبر موقعها الالكتروني www.ektab.com

اطلقت شركة  “اي كتاب” 70,000 عنوانا باللغة الانجليزية من شتى...