أنت هنا

قراءة كتاب مدن فاتنة وهواء طائش

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدن فاتنة وهواء طائش

مدن فاتنة وهواء طائش

في كتاب "مدن فاتنة وهواء طائش"، أخذنا محمّد إلى بيته. قاد سيارته في الشارع المتعرّج بسرعة زائدة، أو هكذا خيّل لي، ما جعلني متوجساً طوال الوقت. (ستتكرر هذه السرعة في الأيام التالية، سيجدها محمد أمرا عاديا، سأجدها امرا مربكا. هذا الإيقاع السريع يربكني!

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7
-5-
 
في زمن مضى، كنت أقضي ساعتين أو ثلاثاً من بعض أيام الأسبوع، وأنا أتمشى في شوارع المدينة بعد المساء، صحبة صديقي الناقد محمد البطراوي، الذي دلني على الطريق الى الحزب· لم تعد المدينة بالنسبة لي مجرد شوارع مكرسة لركوب الدراجات! هل تغيرت المدينة أم تغيرت أنا؟ ربما تغير كل منا، أنا والمدينة·
 
برزت رام الله في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، باعتبارها واحدة من أهم ساحات النشاط السياسي في البلاد· تجمعت فيها نخب سياسية من مختلف الأحزاب والقوى السياسية، التي تركت أثراً ملموساً بنشاطها على المدينة وعلى ريفها وعلى مجمل البلاد· رام الله، منذ تلك الأيام، أخذتني إلى السياسة على نحو أكيد·
 
صديقي الذي دلني على الطريق، التحق بالنشاط الحزبي في فترة مبكرة من حياته، ثم دخل المعتقلات والسجون· كدّس تجربة لا يستهان بها في مواجهة سياسات القمع وتكميم الأفواه، وقد جاء دوره الآن لكي يضمني إلى صفوف الحزب· كنا نجوب شوارع را الله، نتأمل المدينة والناس بعض الوقت، ثم نستغرق في شتى الأحاديث حول السياسة والأدب والثقافة والفن· كان صديقي مثقفاً يتمتع ببراعة في السرد، وفي الدفاع عن أفكاره· كنت أصغي إليه حيناً، وأحاوره حيناً آخر· في بداية الأمر كنت ضيق الأفق، متعصباً لقناعاتي التي ورثتها من أسرتي ومن المجتمع·
 
بعد سنتين من الحوار المتصل، انتسبت إلى الحزب·
 
ابتدأت الطقوس الأولى لهذه العملية التي غيرت مجرى حياتي، في محل (أريزونا) للمرطبات الذي يقع بجوار سينما دنيا· سبق أن أشرت لهذه الواقعة في كتابي المكرس للقدس (ظل آخر للمدينة) لم يعد هذا المحل على قيد الحياة الآن، وإلا لكنت زرته مثلما زرت، بعد غياب طويل في المنفى القسري، كل البيوت التي سكنت فيها، خلال إقامتي في رام الله إبان فترة الستينيات من القرن الماضي· (أشعر كما لو أن هذا الأمر وقع البارحة، مع ذلك، لا مفر من القول إنه وقع في القرن الماضي!)
 
كم تبدو الفكرة محرجة محيرة!
 
تذهب إلى بيت لم تعد لك أية علاقة به، تقول لساكنيه وأنت تستنفر كل ما لديك من دماثة وحسن نية: أقمت هنا ذات مرة، وأرغب في إلقاء نظرة على البيت من الداخل إذا أمكن· أهلاً! سيلوي الزوج (بوزه) بعدم ارتياح· قد تكون زوجته الشابة تستحم في تلك اللحظة، تغني بصوت عالٍ في الوقت نفسه· سيبدو الأمر محرجاً بكل تأكيد، وليس من اللائق أن يضطر زوجها إلى إيقافها عن الغناء لأن متيماً بالبيت وصل للتو· قد يساوره الشك بأنك تجيء لهدف آخر، هدف غير بريء، ولأنك اصطدمت بوجوده في البيت، فإنك تنتحل لنفسك عذراً أقبح من ذنب· قد تقع في مشكلة بسبب سوء الظن· (مجتمعنا ليس سهلاً حينما يتعلق الأمر بالنساء!) من الأفضل إذاً، أن تمارس البحث عن حياتك التي مرت من هنا، على نحو جزئي عابر وبما تيسر من إمكانات· تقترب من البيوت التي سكنتها، تعاينها من الخارج بحذر، تتذكرها وأنت عائد إليها مبتهجاً لهذا السبب أو ذاك، أو محملاً بالهموم والهواجس، بالمخاوف من اعتقال سوف يأتي ذات ليلة· تتذكر في الوقت نفسه، جاراً طيباً هنا اعتاد أن يعلم حماره بعض كلمات وإشارات، فلم يفلح في تعليمه شيئاً· جارة طيبة هناك ترمي للقطط قطعاً صغيرة من اللحم المفروم، امرأة عجوزاً لا تكف عن الثرثرة، فتاة مراهقة تناطح الحيطان، ثم تنكفئ على نفسك عائداً من حيث أتيت، فالبيوت لا تعرف إلا من يسكنون فيها، وعليك أن تعترف بأن تلك واحدة من المعضلات التي تدخل الأسى إلى قلبك، كلما أردت أن تجمع شتات نفسك من توزعها عبر بيوت كثيرة وأمكنة ومدن· (المكان الوحيد الذي لم أفكر بزيارته هو سجن رام الله الذي احتجزتني فيه سلطات الاحتلال الاسرائيلي ثلاثة أشهر العام 1974· قيل لي إن المحتلين هدموا زنازين السجن قبيل مغادرتهم للمدينة، اعتقاداً منهم أن ذلك قادر على طمس جرائمهم ضد المعتقلين والسجناء الفلسطينيين)

الصفحات