قراءة كتاب تفريغ الكائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تفريغ الكائن

تفريغ الكائن

كتاب " تفريغ الكائن " ، تأليف خليل النعيمي ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

3

كنتُ أحس أنني أنكشفُ·

فعل الانكشاف مدهش ولذيذ· في الانكشاف شيء يشبه كشف العورة في فضاء ممتلئ بالناس· لكن المؤسف هو أن هذا لا يهم أحدًا منهم· وهنا تكمن مأساة المشهد وموته البارد·

كانت تحسب أنني لا أشك في شيء مما تفكر به، أو مما لا تفكر فيه (هذا هو كل ما كانت تحسب؟) لكنها تعرف جيدًا أن ما كل ما يشكّ يُقال

كان الليل قد بدأ يجيء· الماء البعيد في أسفل الأرض بدأ يَسودّ· صرتُ أنتظر مرور سفن الضوء· سفن السياح البليدين، ذوي العيون الباهتة اللئيمة، الذين يخترقون الليل وهم يلوكون بأفكاكهم التي لا تفرّط بشيء· دليلهم الضوء المنصلق من أجنحة السفن المتطاولة· الضوء الكشّاف الذي ينير أحجار الأبنية المرمية على الضفتين· عيونهم تختبىء، حتى في الظلمة، خلف أزججة نظارتهم العمياء· ماذا يرى هؤلاء العابرون من المدينة سوى النوء؟

في الشام كان الاحتواء مباشرًا وسليطًا· الأرض تحتوي البشر· البشر يحتوون بعضهم بعضًا· النظر يمر من الضوء إلى الضوء· حتى الظلمة كانت مشرقة·

من قبل، كنتُ أحسب أن البؤس الإنساني مرتبط بالمكان· وكنتُ أدخر بؤسي في أعماقي المليئة توترًا وإحباطًا· هنا عرفت أن الأمر لم يكن صوريًا إلى هذا الحد· ولم يعد لمقولتي الهوسية التي ما فئتت أرددها: لننته من بؤس الحياة، هذا إلاّ قيمة نسبية جدًا·

ووجدتني أشهق باتجاه الريح· أريد أن أجمع الليل الذي بدأ، للتوّ، بين يدي· كنت أريد أن أمسك به من أوله، وأقضمه لحظة لحظة حتى مطلع الفجر· كان مساء الشام يمسك بتلابيبي· وكنت أتمتم: هذا المساء المليء بالمجهول، أيكون ولد من ذاك؟ وفجأة توهج الصوت:

- حتى اللهفة تريد تزويرها؟ الشام الذي تبحث عنه هل عرفته حقًا؟ ألم أكن أراك تمشي كالمعتوه في أزقة الجامع الأموي مستسلمًا للجوع والخواء؟ ألا تعرف أني أعرف كل شيء عن تلك الحقبة التي لا تني تثير بذكرها غيظي؟ كنتُ أرى الموت اليومي يركب هيئتك ومزاياك· كنتَ أصفر محشوًا لؤمًا وغمًّا· كنت تسوع، وأنت تهذي: عالم بلا مشروعية خراب وكنت أنتظر الغروب لكي ألقاك· نصعد الإسفلت المُكَوَّر بعضه على بعض من شدة الحر، قبل أن تمسك بي من بين فخذيّ، وتنهض بي إلى أعلى متشبثًا بجدائلي وحفافي· ومن بين أسنانك اليابسة تجيء غمغمتك الملوّثة برطوبتك المفاجئة، لتعلن لي بداية الشغف والموت· كنت أحسب، لبلاهتي وقلة وعيي، أنك إنسان فذ· وكنتَ تعرف أنني أحسب ذلك، ولم تقل شيئًا· كنت تظن أن الحياة مجبولة من الضآلة والزيف· وليست السلطة التي تدعي مناوءتها، الآن، إلا من طينتك الزيّافة هذه·

سكتَتْ، فجأة· وسكتُّ·

صمت يابس كالموت·

لا، لم أعد أريد أن أبدد وقتي في نفي البلادة والابتذال·

صرت متأكدًا من شيء واحد: قيمة الحياة ليست، فقط، في صدقها، بل في حركتها، ومهزلة الوجود لا تنبع إلا من الثبات·

وأحسستُ بكِ تتململين· تريدين أن تمدي يدًا إليَّ· وتوقعتُ أن تلامس اليد القديمة بعضي· ولم يجئني سوى الغبار· كانت الشمس الشامية تحرق كل شيء· وكنت تلبسين الأصفر الفوّار· وتحت المَلَس الرقيق تتنفس أحشاؤك وثناياكِ· وتتَبَّعْتُ الجسد المشدود من الطريق إلى الطريق· حريق· الجامعة والمارة والحيوانات والأحجار وأنت وأنا والشجر الصامت بانتظار الآهات التي ستنبثق بعد قليل: شجر الشام العريق· وأخَذَك الشلل فجأة· ولم أجد إلا يدي· كان تشابك الأعضاء وتآلفها مثيرًا: كنت تحدقين في وجهي، وقد عقد الخَرَس لسانكِ·

ولم أقل شيئًا· كنتُ لا أزال أحتفظ بكينونتي الكبرى وأوهامها· كان الشام جميلاً وقريبًا من القلب· ولم أكن، بعد، أغني:

وافترقنا يا دمشق، وعلى معطفك الأخضر دم· وانتكاسات وهم

كنت أعتقد، أنني، إذْ كفيتك آنذاك، فسأكفيك إلى الأبد· وأن زرع الشام لن يذبل في راحتي· فأنا، كما تعرفين، أحب الشام· و········

- اسكتْ· (قلت بتوتر خفيف) وأضفت فورًا: لا يمكن لأحد، مهما كان جديرًا، أن يكفي وحده أحدًا آخر

صمت·

Pages