أنت هنا

$6.99
جدل الاستشراق والعولمة

جدل الاستشراق والعولمة

المؤلف:

5
Average: 5 (1 vote)

تاريخ النشر:

2012

isbn:

978-9953-71-756-2
مكتبتكم متوفرة أيضا للقراءة على حاسوبكم الشخصي في قسم "مكتبتي".
الرجاء حمل التطبيق المجاني الملائم لجهازك من القائمة التالية قبل تحميل الكتاب:
Iphone, Ipad, Ipod
Devices that use android operating system

نظرة عامة

كتاب " جدل الاستشراق والعولمة ، تأليف د. نديم نجدي ، واذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
جلّنا يعاني اليوم، ارتباكاً ناجماً عن ضياع بوصلة التوجيه، ما لم نقل الانتماء إلى ما كان يتحدّد بموجبه الفرق بين اليمين واليسار، الرأسمالية والاشتراكية، الغرب والشرق... إلخ. وقِس على ذلك، الكثير مِنْ حدود الفصل بين ثنائيات، حكمت وعينا في السابق بما نريد... وبما نسعى إلى تحقيقه من أهداف واضحة وضوح الضد منها. هكذا بدا مشهد الاصطفاف قائماً على ما تفرضه ضرورة الاقتناع بأحد الطرفين، فبالضد من الطرف الثاني تتآلف العامّة وتحتشد بطبيعتها في التنديد بالمظالم التي يتسبّب بها الآخر، لكونه آخر مختلفاً عمّا تعتقد به الأنا في السرّاء والضرّاء وحسب. 
ولا يبدو أن في التاريخ، ثمة منطقاً آخر يمكنه أنْ يجاري غواية مثل هذه الثنائيات المتقابلة عند العامة التي تستجدي الانحياز التام إلى اليقين الذي مِنْ شأنه أنْ يرسّخ تآلف أية جماعة، في أطر وأحزاب، أقوام أو عشائر، تتلاحم بقوّة ثابتة، لا يمكن أنْ يزعزع صلابتها عقل فذّ، ولا فكر نافذ، قبل أن تستنفد هي بذاتها مرارة التجربة. بعدئذ تستجيب من تلقاء نفسها للرأي المخالف الذي لن يستوي بدوره، إلا بعد مخاض عسير، حتى يرسو على ما يتضح من بعده الموالي عن المناوئ، المناصر عن المعادي... وهلمجراً. 
لهذا، يمكن القول إننا نعيش اليوم، مرحلة ضبابية حسّاسة، عبقت في أجوائنا الفكرية-السياسية مِنْ جرّاء اختلال التوازن الناجم عَنْ تداعي المنظومة الاشتراكية، أحد طرفي هذه الثنائية التي قسّمت العالم بين رأسمالي واشتراكي. 
لربما نشهد ولادة جديدة، ستنجب، حكماً، إجابات عن أسئلة صعبة، لا أمل لرأسمالية السوق في أن تجيب عنها بغير الدعوة إلى الانهماك والتلهي في الاستهلاك. قدرنا أن نشهد كيف تتخبط العامّة، يميناً وشمالاً، انبهاراً وتعصباً، ساعة لا يتوافر أمامها أي خيار، غير المفاضلة بين ما في السماء وما على هذه الأرض، بين الارتماء في حضن التراث، أو الانجراف في حداثة كهذه؛ لعلّنا نعيش اليوم لحظة غير «شعبوية»، نظراً إلى تواشج العالم وتشابكه على ما جعل الفروق بين الشيء ونقيضه، مطمورة خلف دهشتنا بجديد العولمة وذهولنا من نتائجها؛ ليتصعب على العامة أمر اختيار الحسن، وهو مندس بالسيِّئ، خصوصاً وأن جديد العولمة يشعّ ألقاً، تزوغ معه الرؤية النافذة لتمييز الصالح من الطالح فيها. 
ثمّة ارتباك إذاً، تعيشه القوميات في عالم اليوم، بعدما أطاحت العولمة القوالب الجاهزة والأفكار المسبقة عن الآخر، مقلّصة المسافات ومقوّضة الحواجز القائمة، بين الأنا والآخر على النحو الذي صارت فيه العوالم متقاربة ومتجاورة إلى حدّ، بات معه الكلام على الغريب النائي، ضرباً من الغباوة. فبعدما أضحى التفاعل بين الشعوب، سمة راهنة، عزّزت التقارب، ونقضت الكثير من الظنون المكرّسة التي كانت في عقائد أيديولوجية متنابذة ومتصارعة، تغذت بها الصور النمطية المتبادلة بين فعل الاستشراق وردّة الفعل عليه. إذ يمكن اعتبار العولمة بمثابة إعصار، باغتنا في عقر دارنا، من دون استئذان، حاملاً معه، تكنولوجيا «أداتية»، لا مجال لردّها ضد مصدرها الغربي، رداً على ثيمته الاستشراقية التي جعلتنا نشك في كل ما يرسله إلينا؛ فلا ثقة بعدالة الغرب وديموقراطيته ونزاهته عند شعوب، آلمها الرأي المجحف بها، وهذا ما جعلها ترتاب دوماً من صاحب النظرة الاستشراقية، على الرغم من أنه شذب بعضاً منها وعدّل من بعضها الآخر، بما يتلاءم مع تحولات العولمة التي قرّبت المسافات بين الشعوب والحضارات التي كانت متشرنقة في هويات، اتسمت ببعد ميتافيزيقي، قبل أن يتعرّى الإنسان من اختلافاته المختلقة، ليظهر على حقيقته، كما هو، لا فضل لصيني على سويدي، ولا لعربي على فرنسي، ولا لأبيض على أسود إلا بما اكتسبه في بيئته الجغرافية ومنشئه الاجتماعي. فالجرح الذي بضعه الاستشراق في وعي شعوب الشرق، كان له أثر دامغ في العلاقة الراهنة بين العالمين. وعليه، ففي خضمّ التفتيش عن صلة الاستشراق بالعولمة، لم أكابد مشقّة كبيرة، كي ألتقط مفاصل العلاقة العضوية المحتدمة بين الاستشراق الذي عبّر عن الأسباب الوجيهة لسياق مرحلة تاريخية معينة؛ والعولمة التي عكست بدورها أسباباً مغايرة لمآل الحضارة الغربية المتمركزة اليوم في نطاق جغرافي، بات اليوم أقرب إلينا من البارحة، بفعل التحولات الاستراتيجية للعولمة، لدينا ولديهم. 
إن فرضية بحثي عن النتائج المترتبة على اصطدام ثوابت الاستشراق بتحولات أو بمتغيرات العولمة على الصعيدين الغربي والشرقي، قائمة في الأساس على افتراض أن ثوابت الاستشراق ناتجة من أسباب بنيوية لها علاقة بواقع مرحلة، كانت فيها المسافة الفاصلة بين العالمين، مساحة ملأى بكل ما يمكن أن يتخيله الباحث الغربي عن الكائن الشرقي؛ وهذا ما أتاح له، لا بل حثّه، لكي يُعمل مخيلته، اختلاقاً وتركيباً، تقليماً وتوليفاً عمّا يراه... عمّا يريده... عما يحتاج إليه الغربي من ذاك الإنسان الغريب والبعيد، حتى يلبسه ثوب تصوراته المجحفة التي أمعنت في اختلاقه على نحو ما أدى إلى أن يصير الشرقي (في ذهن الغربي) غير نفسه، فكانت ردّة الفعل على الاستشراق، من ناحيتنا، اتهاماً له بالافتراء والتشويه، وبإنشاء واقع الشرق على ما تستجديه معادلة غرب متفوّق/شرق متخلّف، من أوصاف نمطية مُحكمة في الوجدان الغربي عن هذه الكائنات الموغلة في وحشة انفعالاتها الحسية، إزاء الإدراكات العقلية للإنسان الغربي. 
ولطالما شكّلت الصورة النمطية للاستشراق عن الشعوب الشرقية عموماً والغربية خصوصاً، مرتكزاً نظرياً لعلاقة غير سويّة، رمت من خلالها السياسات الغربية إلى التحكم في الشعوب الشرقية، باعتبارها صنفاً بشرياً متخلفاً بطبيعة خَلقه وخُلقه منذ أنْ ولد، فوجب إخضاعها لوصاية الشعوب الغربية، لأنها صنف متفوق بطبيعة تكوينه العقلي، منذ أن وجد. 
يتّصف الاستشراق إذاً، بتعقيدات جمّة، قد لا تقف عند حدّ السؤال عمّا إذا كان سبباً أو نتيجة لتحولات الفكر الغربي وتمركزه الحضاري، تماماً كما هي حال العولمة التي جاءت نتيجة تطور الحضارة الغربية إلى ما يجعل من تحديد فوائدها وضررها على الحضارة الغربية نفسها، سؤالاً عما إذا كانت علّة أو معلولاً.
 
ويجدر بنا التذكير هنا، بأن الاستشراق ليس واحداً، فهو متعدّد ومتنوّع، بحيث لا يمكن اختزاله في صفة جامعة لمستشرقين متشذرين على أكثر من اتجاه فكري ومنهجي، أدّى ببعضهم إلى عدم الخروج عن الخط المفعم بالإحساس العنصري حيال الآخر، كما أدى ببعضهم الآخر إلى دحض موروثاته النمطية المسبقة عن الشرق والشرقيين، وهذا ما يفرض علينا الابتعاد عن التعميم، عبر الكلام على مستشرقين محددين، وليس على الاستشراق بالجملة، حتّى وإن بدا بين هؤلاء المستشرقين المختلفين والمتنوعين ثمّة خيط خفي، يجمعهم ويشدّ أزر اختلافاتهم إلى ما يشي بوجود مركب بنيوي في ذهنية غربية، لا تتيح النظر الموضوعي إلى ما عند الآخر، كما لا تسمح بالخروج المطلق من عقدة تفوقهم على من يعتبرونه دونهم مستوى (بالسليقة). 
إن هذه الثيمة الاستشراقية لها أسباب مرتبطة ببُعد المسافة، وبالاختلافات الحضارية بين «أنا» متجانسة في ديانتها ولغتها وتقاليدها ولون بشرتها، عن «آخر» مختلف في تكوينه الغريب، بما يؤدي غرض تعزيز هوية الأنا الغربية، انسجاماً مع ضرورة أن يكون للآخر الشرقي مواصفات دونية، من شأنها تعزيز نقاء العنصر الغربي واصطفائه الحسن، بالإضافة إلى دوافع تاريخية وموروثات، متعلقة بالاحتكاكات الحضارية المحتدمة بين عالمي الشرق والغرب، بدأت مع الإغريق، ولم تنتهِ في الحملات الصليبية، ولا في الغزوات والتنابذ السياسي والصراع الديني المتبادل بين شعوب العالمين. زد على هذا، كل المؤثرات السوسيولوجية والسيكولوجية الواضحة في تحديد مكونات صورة الأنا عند الآخر، وبالعكس. 
لهذا، إن النقمة على الاستشراق (من صوبنا) تعدّت مضامينه النصيّة، لتنال مِنْ مستشرقين، استثاروا هواجس، واستفزّوا نعرات التعصّب ضد هوية كل من بات يتلازم استشراقه مع غربيته. 
لذا، نشأت ريبة متأصّلة في كل ما يأتينا مِنَ الغرب، أكان اختراعاً «تقنياً»، أو مبادئ حقوقية، إبداعاً «منهجياً» أو ثقافة سياسية. ولما أطلّت العولمة علينا من الغرب، فمن الطبيعي أن يُصار مع هذه الحال إلى التشكيك في الغاية المتلطية وراء منجزاتها الضارّة، لأنها صادرة عن الجهة التي دبجت المكتوب الاستشراقي فقط، في سياق نسج خيوط مؤامرة دائمة علينا!!! 
ففي سياق البحث عن الخيط الرابط بين موضوع الاستشراق، كمادة غنية بالمشكلات التي وسمت الآخر الشرقي بنمطية محدّدة، اختزلته إلى مجموعة من التصورات والأحكام المبرمة من جهة، والعولمة كحالة جاثمة اليوم على كاهل الإنسان المعاصر، بما أدى إلى أنْ تشكّل أساساً لفرق حضاري بين ما كناه... وما صرناه... من جهة ثانية؛ وجدنا أن ثمّة تواشجاً مضمراً بين قديم الاستشراق وجديد العولمة، ليس في موضوعاتهما، إنّما في الصلة المنعقدة بين فضاءين منفصلين على ما يؤكد وجود علاقة بنيوية بين فائض معرفة نظرية، طفت علينا فعلاً استشراقياً في القرنين المنصرمين، من جهة، وفائض قوّة تكنولوجية واقتدار عسكري ومعرفي، أغرقنا في ثقافة استهلاكية، وسمت عصر العولمة من ناحية ثانية. ولأن الثانية أعقبت الأولى، في سياق زمني قصير، باتت العولمة ملوّثة بعلائق نقمتنا على الاستشراق، بطريقة تعبّر أكثر عن توجسنا الخاص من جهلنا بذاك الغريب الحضاري الآتي إلينا من وراء البحار. 
لقد اقترن الاستشراق برذائل التبخيس والحطّ مِنْ قدر أبناء الشرق، هؤلاء الساخطين على صورتهم في عيون الغربيين، بعد أن تعرّضوا لإسقاطات ومُسخوا كائنات صالحة لاختبار مناهجهم الفكرية الحديثة، فطغى نتيجة ذلك وجه العلاقة الطافحة بالاستعلاء الغربي المتجوهر في المقابل، كسلاً ودونية عند الشرقيين المعدمين والفاقدين لأهلية النظر إلى ماضيهم بأنفسهم، وذلك بسبب تكوينهم العاطفي، إزاء التكون العقلاني التام للغربيين. فكان أن طغى هذا الحيّز الاستشراقي على ما عداه، طامساًً الجهود التي بذلها مستشرقون نيّرون بتفانٍ وإخلاص لتحقيق مخطوطات فلسفية وأدبية، مِنْ شأن إبرازها، دحض حجّة الاستشراق التقليدي ومشروعيته القائمة على معادلة ميتافيزيقية (العقل للغرب والقلب للشرق) هشّة، لا أساس لها، إلا في عقل ميتافيزيقيي الاستشراق التقليدي. 
فبعد أن عرضنا لدوافع الاستشراق ونتائجه العميمة على الذهنية الغربية، سعينا إلى الإجابة عن السؤال التالي: على أي نحو، وبأي قدر تأثر الاستشراق بجديد العولمة؟ أو الأحرى، هل مِنْ تجلٍّ استشراقي بارز في ثقافة العولمة؟ خصوصاً بعد أن تبيّن لنا، كما سبق وأسلفنا، أن الفعل الاستشراقي، باختلاقاته وتوفيقاته، بنجاحاته وإخفاقاته، كان محكوماً بجذور بنيوية، لا إرادة للباحث الغربي فيها، بل إن نشأته في كنف الأيديولوجيا التراثية للغرب الصليبي، مسؤولية، ساندتها الطفرة المعرفية الصاعدة في مناهج علمية حديثة، ملكتهم حسّ الاقتدار، فباتوا مفعمين بالاستعلاء، على ما أدى بمعظمهم إلى السقوط في هوّة التنميط الاختزالي للآخر الشرقي؛ ولم يحد عن هذا المنطق إلّا قليلون، تمرّدوا. إلا أن جلّهم لم يستطع أن يفلت من الكوابح المنبثّة في لاوعيه عن شرق منحط وكسول، كبداهة، غذّت في المقابل بداهة غرب عقلاني ومتفوق على من يعيشون في واقع زري، ليس بسبب تكوينهم من جوهر عاطفي كسول، على نحو ما انزلق إليه الاستشراق، مِنْ كونه بحثاً نخبوياً مشاكساً لوعي العامة، إلى ما هو رائج وذائع الصيت بين جموع، تركن بطبيعتها إلى دفء انتمائها إلى وجدانياتها المتجوهرة خيراً مطلقاً، ضد الشر السرمدي للآخر. 
لقد شكلت العولمة إعصاراً حضارياً، أطاح الكثير من الثوابت الاستشراقية القائمة في الأصل على دفائن سريرتهم غير الإرادية، أي على مساحة قوّضت بفعل ثورة الاتصال والتواصل التكنولوجي التي تعدّى نطاق تأثيرها النظرة النمطية للاستشراق، إلى ما بات يؤثّر حكماً في نظرة الغربي، كما الشرقي إلى ذات نفسه. 
لقد أدت هذه الوسائط دوراً وظائفياً في نشر ثقافة جديدة، جاءت نتيجة امتلاك الشخص لهاتف نقّال وكمبيوتر؛ حتى وإن صنعها الغرب، إلّا أنه لم يقرّر وجهتها، ولم يتحكم في مفاعيل استعمالها على وعي مواطنيه المنتمين إلى هوية أيديولوجية مفعمة بتصورات نمطية عن الآخر الذي بات قريباً وفاعلاً ومنفعلاً بما يدحض الحجّة الاستشراقية من أساسها. 
لهذا، نجد الغرب يعاني اليوم، قبل غيره، مِنْ إخفاقه في كبح جماح عولمة، اكتسحت ميتافيزيقيا الهويات القومية المتجوهرة في مركزية غربية، أو شرقية؛ ولعلّ تشبيه العولمة بالمارد الذي أفلت من قمقمه، فارضاً إرادته على صاحب القمقم نفسه، هو في محله، بعد أن بتنا أمام نتائج غير متوقعة على إنسان بات يعاني مِنْ جراء فقدانه لهوية، كانت قد شكّلت، ولزمنٍ طويل، جزءاً من كينونته الوجودية. فالإطاحة الدراماتيكية السريعة بالحدود الجغرافية الفاصلة بين أقطار العالم، تجاوزت تقديرنا، لما يمكن أن يترتب على تكثيف العالم، وتصغيره إلى ما بات يسمّى بقرية كونية واحدة. لكن وبما أن النأي وبمسافات شاسعة بين الأمم، كان قد أدى دوراً مؤثراً في تكوين الاستشراق التقليدي، فما إن تقلّص البُعد، حتى ظهر الاستشراق مجرّداً من أحد أهم مسوغاته البنيوية، بعد أن فتحت منافذ الهويات المنغلقة تلك التي كانت قد ساهمت في تأطير النظريات الاستشراقية، وتغليفها بصفات مستمدة بالضدّ من صفات الآخر، بما فرض على دعاة الاستشراق التقليدي، إعادة النظر بالمقولات، والمفاهيم القائمة، عندهم، على أساس الفرق، في العرق، الجنس والدين. 
يتسم عالم اليوم بالتفاعل وتبادل الخبرات والثقافات، بصورة تلقائية، نالت من العقول الأيديولوجية المتحجّرة في إطلاقات، ثبت بطلانها، مع ازدياد وتيرة التفاعل الأممي يوماً بعد يوم. 
لكن، ثمة مفارقة في أن العولمة وإن قطعت مع دفائن الجذر الاستشراقي، إلّا أنها لم تقطع مع (تفريخاته) السياسية القائمة على مثل هذا الجذر في التعامل مع قضايا شعوب العالم الثالث (في الشرق). ولعلّ هذا يعود إلى المنافع التي يستدرها الغربيون من تكريس مبادئ حقوقية عامة، كالديموقراطية، والعدالة، داخل مجتمعاتهم، وإنكارها على شعوب أخرى، بحجّة أنها ليست مؤهّلة لأن تطبّق المبادئ ذاتها، بسبب ما تتصف به من استبداد، وعشوائية، و... و... الخ. 
وبهذا المعنى، يتمّ إحياء المخزون الاستشراقي من كوامن اللاوعي الغربي، خدمة لأغراض ذرائعية، جرت مواءمتها في صيغة هجينة، كي تتصالح المبادئ الإنسانية للغرب مع لاإنسانية تعاملهم-مواقفهم حيال شعوب، لا تزال ـ بحسب قاموس تصنيفاتهم ـ في الدرك الأسفل للحضارة، والقضية الفلسطينية خير شاهد، على سبيل المثال لا الحصر. ليبرز من جديد وجه قرابة، مفتعلة هذه المرّة، بين الفضاءين، على اعتبار أن نتائج العولمة تشكّل امتداداً حرفياً لفعل الاستشراق، وهذه مغالطة وقع فيها كل مَنْ حذّر مِنْ مغبّة تجرّع سم الغرب، باعتباره مدسوساً في ثقافة الاستشراق وبضاعة العولمة. لذا، وجب ردّها على عماية، من دون تمييز الصالح من الطالح فيها. 
تتعرض العولمة إذاً كمفهوم، لما تعرض له الاستشراق مِنْ تحامل، فأضحيا من فرط التهجّم عليهما، كما لو أنهما صفة مقترنة بعنصرية الغرب، غير الموثوق بهويته، ولا بتاريخه المفعم بتناقضات، يجب ألّا نتمثّل بها، حفاظاً على نقاء الهوية وصفاء التراث. هكذا يتمّ لدى بعضنا درء الأخطار المحدقة من الخارج، عبر تجنيب الذات في الداخل، لوثة الاختلاط والتفاعل، لكي تحيا صفاء تجوهرها الروحاني المناقض لمادية الغرب واستهلاكه، وهذا ليس إلّا توكيداً للحجّة الاستشراقية البائدة التي تمّ تجاوز الكثير منها في الغرب نفسه، نتيجة حراك علمي ومعرفي، يجب علينا تثمينه، من خلال تغيير نظرتنا إلى ما في الحضارة الغربية من ديناميات حيّة، أنتجت استشراقاً، ما لبث أن ذوى أمام استفاقة العولمة التي تحمل بذور نقضها لأسس الاستشراق في الصميم، على غرار ما تمّ الانقلاب عليه مراراً وتكراراً، في ثوراتهم الفكرية والفلسفية، التي كشفت عن الوجه النيّر من تاريخهم المفعم بحراك جدلي بين الشيء ونقيضه. 
تتسم العولمة إذاً بتقريب المسافات بين البشر، بحكم افتتاحها أسواق التبادل التجاري على ما أدى إلى تحوّل قيمة الإنسان مِن قيمة ميتافيزيقية مطلقة، إلى قيمة استهلاك مادي، ليس متجوهراً في المبادئ الأخلاقية التي كانت قد قسّمت البشر إلى أعراق وأجناس، أمم وأديان. لكن على الرغم من امتعاض معظمنا من الطابع المادي للعولمة، إلّا أننا لا يمكن التنكّر لها، بل يجب التفاعل معها، كي لا نُصاب بعقم «التوحّد»، علّنا نساهم في تشذيب بعض أدرانها، عبر التفاعل المرن مع مؤثراتها في هوية وطنية-قومية، يحصنها فقط الاعتراف بحاجتنا إلى ذهنية منفتحة في التعامل مع الأنا والآخر على السواء.