You are here

قراءة كتاب تفريغ الكائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تفريغ الكائن

تفريغ الكائن

كتاب " تفريغ الكائن " ، تأليف خليل النعيمي ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

عبر النافذة العالية، الواقفة في غمام باريس اللئيم، كنت أتطلع· لم أر شيئًا· بعيدًا كانت الأشجار يابسة وكئيبة· أشجار تخلّت، هي الأخرى، عن أوراقها· أوراق أخذت تهر مثل المطر الرقيع· قريبًا مني، قريبًا رؤية لا مقامًا، كان فتيل الدخان الأبلق يصعد متلويًا في الفضاء· يبتعد، يبتعد في بداية الظلام الشغيف· أبتعد، أنا الآخر، عنه· شرقًا، هذه المرة، كان يبتعد الدخان· (وكنت أبتعد في مكاني)· أغمضت عيني، برهة· أحلل المشهد، وأنقيه· أريد أن أفهم اللوعة والاحتضار· اكتشفت مؤخرًا، أن الحياة لم تكن ما أعيشه، بل ما أفكر فيه (كما قلت من قبل؟) وهو أمر أوقعني في مصائر شتى· مصائر أنتجت مسائرها الخاصة· حتى صرت في نهاية الأمر مجرد عقل صغير في عالم واسع شديد الاختلاط· عقل لا يفكك الأشياء من أجل استيعابها، وإنما يزحمها كما هي في ناموسه الضيق والمحدود·

وسمعتها تقول:

- بعقل صغير كهذا تريد أن تفهم العالم؟

صدى خافت لضحكة شامتة، دَقَّ أذني·

وتابعَتْ بهدوء: أنت لا تشك في شيء· حاسة الشك، عندك، تعطلت· من الصعب انتشالك من الجحيم· علاقة الإنسان مع العالم، ومع نفسه، سيرورة مستمرة، وليست طفرة· وأنت لم تبنِ، منذ عرفتك، هيكلاً·

صَمْت·

كنت لا أزال أحدق دون حراك، في العالم المترمي الأطراف خلف النافذة· كان المطر يخر· مطر استوائي، ملأ الشوارع والساحات· هرع الناس منه إلى الحانات والمقاهي· أجلس بينهم هادئًا ومستتبًا· أريد أن أحكي أي شيء· وأكاد أتذكّر البارحة مساء: الشمس صفراء· باهتة· الأفق غائم· وأنا وحدي أسير في شوارع باريس الرمادية· شوارع تختلط بلا حدود مع وجوه البشر العابرين· كنت ألمس مدى الخراب والانكسار: وَلدٌ لوّحته الشمس ولم يعد يراها؟ أول حنين عندي كان الحنين إلى الشمس· حنين إلى الأشعة الحارة التي تنفذ عبر مسام البدن رأسًا· عاطفتي عاطفة شمسيّة· لكنها لا تفهم هذا· كيف أشرح لها الأمر؟ كان كل شيء يتهاوى· يتهاوى ببطء ثمين· كنت أحس أن ما عجنَتْه يداي، لم يصبح خبزًا بعد· وأن ما حشي به راسي لم يكن إلا طينًا· كنت أحس أنني لم أكن بحاجةٍ إلى نقد ذاتي بائس (كما علموني) وإنما بحاجة إلى تطور· تطورٍ داخليّ ينقلني من مرحلة إلى أخرى· من مرحلة التعلُّق إلى مرحلة التَخَلُّق·

لكن صوتها المسموم جاء مرة أخرى:

- مأساتك هي مأساة إنسان بائس بلا مأساة· وهذه المرة، في هذا المكان، عليك أن تكون اثنين، من أجل أن تكون واحدًا·

السماء تنظر إلى الأرض باشمئزاز· المطر انقطع خيطه المُتَدَلّي· الناس لم يتركوا ملاجئهم، بعد· الشمس التي بدأت غيابها الفاتر، أكملته منذ زمان· كانت لحظة سفن الضوء السياحية البليدة قد حلّت· وبانتظار أضوائها الملوّنة، ظللت ألتصق بالنافذة العالية المطلة على السين هذا المساء كنت مصرًّا على تصفية حساباتي القديمة كلها· لحظة الانفجار، الذي أجَّلَ طويلاً، حانت· كانت مسألة إعادة النظر بكل شيء تبدو مصيرًا لا فكاك منه· لم تعد المواجهة محدودة وغبية، وإنما صارت بحرًا· ولم تكن الإنسانية الجاثمة خلفي إلاّ نقطة الندى المعلقة في أعلى الجبال· ومع ذلك، كان عليّ أن أفركها بين أصابعي قبل أن أخوض في مياه البحر· لم أعد أريد أن أترك خلفي حاجزًا أو لغزًا· كنت أريد أن أفهم كل شيء: وَلَد الشام العابس· مواطنه الموجعة· احتباساته· انتكاساته· إحباطه القديم الهائل· وعلاقات المَرَضيّة بمن يحيطه وبما يعنيه· الشمس، وحدها، كانت الحب الناصع· شمس بلا بشر· شمس حمراء تدفئه وتغريه· في كنفها، اخترق، المرة تِلوَ المرة، أطناب العالم وحدوده· ولكن أين هي الشمس الآن؟

- هي خلفك· قالت·

صحيح· يكاد ذلك أن يكون صحيحًا· علّمَتني كيف أحبها، ولم أعد أعرف كيف أحب أحدًا آخر· لكن الأمر يتعلّق، هذا المساء، بالخروج لعبة العادة لم تعد ترضيني· فما هو الحب إن لم يدفعنا إلى أن نحب باستمرار؟

لا، المسألة لم تعد هي التأكد من عاطفة غير أكيدة بطبيعتها· الفاصلة صارت الآن ضرورية: فاصلة القهر· فمن يتمّعن في ماهية القهر وأشكاله لن يُسلّم نفسه لأحد بعد الآن· أكذوبة العواطف والأخلاق تمشي اليوم عارية تحت الشمس· المرعب هو أن تقود نفسك بنفسك حتى الحظيرة· وأنا فعلت هذا· فعلته أكثر من مرة· والآن انكسرت الجرة· الآن·

- مفهومات بائسة، تحاول أن تنقد بها عالمًا أبأس· قالت·

مأساة الإنسان لا تنبع من ماهية الحب وأشكاله، وإنما تنبع من الثبات· أضافت·

ماذا يصنع الإنسان بالألم عندما يفيض عن الحاجة؟ لا، لم أكن في موقع يسمح لي بالرد· لم يعد الأمر يتعلق بالصحّ أو الخطأ، وإنما بالمتعة: متعة انتهاك المحظور· لا المحظور الخارج عن الذات فحسب، وإنما المحظور الجوّانيّ، الخبيء، أيضًا·

يكفي· لو كان ثّمة شيء نهائيّ لانتهينا منه· ما يهمني الآن هو الذريعة· الذريعة التي تخلصني من قيودي القديمة، كلها· ليس ثمة قيد جميل· العواطف أخلاق· والأخلاق مفهومات· والمفهومات سكونة· الذريعة، وحدها تخرب السكون القاتل، هذا· والتخريب، دائمًا، متعة· متعة الالتقاء بشيء كنا ننتظر لقاء نقيضه بالضبط· متعة التخريب الهائلة، هذه، كالمرأة الرائعة: وأنت فيها لا تراها· ومع ذلك تظل تحسها بامتتاع

صار الأمر اليوم يتعلق بامتياز الغضب فمن يستطيع الآن أن يغضب يستطيع أن يحرّك السكونيات· أن ينتقل من موقع العاقل إلى موقع الفاعل· وليس للغضب النقدي تبرير· العالم الذي يحيط بي كله حق· لا أهزأ· لنعتبره كذلك· أنا، وحدي المخطئ· لكن هذا الاعتبار (أو الاعتباط) هو وحده الذي سيقود خطاي المتوثبة للوصول إلى نقطة الاتفاق مع المحيط، أو إلى لحظة الافتراق معه·

- لم تزل كما أعرفك، تمامًا· قالت، بأسى، (وأضافت بحدة متقطعة) تبحث حتى عن تبرير للمتعة· أمرك غريب! (سكتت قليلاً، وأكملت):

- كنت أظنك لا تركن إلى شيء· واكتشفتُ أن سكونكَ الأخلاقي البائس هو مصدر تعاستك المفرطة· كانت الشمس اللاهبة تطفئ حرقتك المستمرة· تطفىء امتعاضك الغامض مساء على ظهر قاسيون· كان ذلك مثيرًا للسعادة واللمس· كنتَ لا تزال في بداية القهر الذي جعلك فيما بعد متبجحًا ومنبوذًا· لا قهرك للآخرين (ولا قهرهم لك) وإنما قهرك المتزّمت لنفسك· كنت أراقب المشهد· أراقبك· أراقب الأرض التي كنت تدوسها· أريد أن أحيط بك كما كنت تريد أن تحيد بي· كنت أعرف أنك كنتَ تريد إبعادي عن امتلاك تواترتي الملْجومة· ولم يكن ذلك إلا وهمًا· ومَدْ ذاك التجأْتَ إلى التبارير·

كانت تحكي· وكنت أبكي·

شمس الشام الجميلة التي ملأتني بالتوتر، والتراب الأحمر الناعم الذي لَمّ أشلائي، وأشواك الأرض الطرية التي نمنا فوقها، غروبًا بعد غروب، لا، لم يكن ذلك كله هروبًا· ماذا تريد أن تؤكد، هذه الممسوسة؟

Pages