أنت هنا
فصل من رواية تل الذئب

كل شيء يتغير فيما عدا الزمن يبقى صبياً غضاً، ربما لأنه بلا ذاكرة، لأنه يحترف النسيان، وفيما عداه فإن كل شيء ستدركه الشيخوخة، التي هي في الأصل أصابع الزمن، الزمن الذي يبدو كسفينة بلانهاية، لا تذوب ولا تغرق، لا يضيرها من هبط ومن صعد، من بقى أو من رحل، تبدأ من هنا، من هناك، من أي نقطة على الأرض (وكل ما في الوجود محض نقاط متناثرة ) حتى تصل إلى الكف القابضة على أصل الخيط:
الله، هناك فقط ينتهي الزمن لأن الله العظيم لا يرضى أن يقترن بشيء حتى ولو ان هذا الطويل المُلقى تحت كرسيه الخالد،
نحن نكره الزمن لأنه يناقضنا، فنحن نمضي فيما هو باق، هو ينسى ونحن لا نستطيع، نحن نشيخ ونذبل فيما هو لا زمن آخر يدركه، المهم أنك ستنام الليلة ها هنا، أليس كذلك؟ هذا أمر مفروغ منه.
محطة القطار تبدو فارغة، يا بني لا محطة هنا ولا قطار، أنت تهوّل الأمر، ربما من قسوة الوحدة، ما عليك سوى أن تضع رأسك وتذهب في النوم، حاول، لن تخسر شيئا.
أخسر؟ قد أخسر السبات العميق ! تصوّر لو أنك في حالة يقظة دائمة ! هذا هو الجنون، ريح تعصف بالأبواب، هى الريح فلماذا القلق؟ لكن الأغنام في حظيرتها لا تكف عن الثغاء، كلاب تمزق أوتارها من النباح، طيور تملأ سواد الليل بأصواتها المتناقضة، هذه بوادر كابوس ثقيل، لكن كيف وأنت جالس تتجرع نبيذ الفقراء (شايك الأحمر) لا، الريح، الريح، تباً للريح ماذا أفعل؟ متشحاً برداء صوفي ثقيل وغطاء رأس أسود حتى أذنيه ، يقف متثاقلاً، سيغلق الأبواب جيداً لكن ماذا بوسعه أن يفعل لصوت الريح؟ قبالة الباب من الداخل يقبض على مزلاج الباب الداخلي، يشم رائحة موغلة في القدم، لا يمكن وصف الروائح بدقة، شيء من الرمل النافذ، وشذى الأثل المحروق وفيما هو يجذب الباب ليعاود إغلاقه بإحكام، رآه ممدداً على الدرجة الثالثة من العتبات الطويلة، باسطاً يديه العاريتين،
يا الله : تمتم في رعب، ما هذا بالضبط؟ لم يفتح الباب بكاملة بعد، لم يعاود إغلاقه كما كان يسعي، في هذا الليل العاري، العاري حتى من غطاء رحيم، من نجمة كبيرة تضئ غموض اللحظة، أدائما يلقي المرء هذه اللحظات وحيداً؟ تجحظ عيناه مجدداً، ربما كانت الهلاوس، آه، حتى من قبل أن تراه وأنت تظن ما لا وجود له، لكنه هو هو، رمادياً شاحباً، هزيلاً وصامتاً، شعر خفيف يتناثر فوق قبة الرأس وحول العنق الصلب، فيما القدمين أجردتان، ممسوح جلدهما من اللون والشعر، إنه هو، هو بلا ريب، حتى الذئاب يدركها الزمن ! كل شئ تغير، هذا يقين، فقط عيناه نار ذائبة في أعماق قاصية جداً. رفع الذئب عينيه باتجاه الباب الذي فتح تواً، حدق في الماثل وراء الباب بدهشة ساكنة، هز عنقه باستكانة كأنه يقول: ألا تزال خائفاً؟ أجاب الصافي دونما صوت : لا، الخوف لا، حتى إنك لا تغري بالخوف الآن، أشار برأسه إلى الدرجة الخاوية من العتبة : هنا؟ أجلس في هذا الريح العاصف؟ لما لا تدخل أنت؟ انتصب على قوائمه وديعاً واثقاً، تطاول بجسده هادئاً وقوراً ودلف من الباب إلى داخل البهو، وحين صادف أول فراش ملقي على الأرض من سجاد قديم تمدد فوقه، هكذا أفضل، لازالت عيناه تسيل على وجه حاد وصارم، هل يمكن للذئاب أن تبكي؟ قال وهو يربت على الظهر الناحل : هون عليك يا أخي، عاود هز رأسه وقال : هبطت التلة مرتين في ذلك الزمن البائد، ما وجدت شيئاً يستحق. أجاب الصافي : كنت مهاجراً. أجاب السيد الأحمر: وأنا أيضاً تجولت كثيراً في الأرض. تساءل الصافي : وما الذي عاد بك الليلة إلى هنا؟ قال الأحمر : أنا لا أعرف، ربما لا أحد يعرف لماذا يذهب إلى هناك أو يجئ إلى هنا، فقط تجذبني الرائحة فأمضي.
قال الصافي : لقد تغيرت كثيراً؟ نعم، كل شئ يتغير، لكنني رغم الأهوال التي رأيت، صوت الرصاص الذي ينام في أذني، المطاردة، الليل، فقد القرين، الجحور
اللينة الدافئة، القبيلة والعنفوان، مراتع الغزلان والينابيع، كل شئ، غير أنني لست بحزين، نحن لا نعرف الحزن القاصم، علينا أن نكون دائماً على أهبة، حتى أنت أيضاً تغيرت. أجاب الصافي باسماً : أنا؟ أنا مثلك يا رفيق، عدت إلى التلة مدفوعاً بالرائحة، وعليّ أيضاً أن أكون على أهبة، ماذا تبقي لنا؟ تساءل. أجاب
السيد الأحمر واثقاً : الهواء، يجب أن نتنفس ما هو مخصص لنا من الهواء، تبقى لنا شيئاً من وبر الزمن علينا أن نتدثر به، أن نمضي في هدوء وسلام، ذلك ما
عجزنا طوال حياتنا عن الوصول إليه، ها نحن نلقاه هنا في التلة، غير أنني عائد قبل انبلاج الصبح. هتف الصافي محتجاً : لماذا بربك عليك أن تعود؟ كن شريكي ها هنا، التلة تسعنا معاً. أجاب الأحمر : لا، لي نقطة لا أحيد عنها، ثم الناس يا رفيق ليس عندهم للذئاب سوى الرصاص. قال الصافي : سأصنع لك مخبئاً لا يراه ولا يعرفه أحد، ستكون في مأمن ونكون معاً. قال الأحمر : لا أريد أن أموت مختبئاً، هذا ظلم لا يطاق، في الريح والخلاء ذلك أفضل بكثير، أجف تحت الشمس حتى أصير حجر صوان. ابق معي، أرجوك : قال الصافي. بل أبق مع نفسك : قال الأحمر، وأنا مثلك مع نفسي، نحن لا نقترن بغير ذواتناأ، لن نطيق أثواباً بديلة، ولن يطيقنا الآخرون،
وحين دلف الصافي إلى داخل حجرات المنزل ليحضر قليلاً من الطعام والماء للضيف، تلفت السيد الأحمر في أرجاء البيت، لم يكن هناك أحد، نهض خفيفاً وسحب خشب الباب بيده اليمنى وصار على مشارف العراء القديم، كانت الماشية لم تزل في رعب الرائحة الماثلة، مد عنقه باتجاه الأصوات المرتعبة، و قال : لا تخافي، سئمت من الصيد والقنص، صار الهواء يشبعني، ثم أنني في دار صديق، لا تخافي. عاد الصافي بعد برهة قليلة من الوقت، وجد المكان خالياً دافئاً، والرائحة الحمراء المعجونة بالرمل النافر، وشذى الأثل المحروق تعبق في المكان المحاصر بالفراغ والوحدة، فيما سكنت الأصوات الزاعقة هنا وهناك، وعاد الليل واسعاً يلقي بعباءته السوداء على جميع الكائنات، تلفت الصافي فلم يجد غير رقاً بالياً من جلد عتيق، كان مطويا بعناية و مدسوسا تحت الفراش الذي كان الأحمر يتربع عليه، فتح الرق بحذر : يا الله، أهذا ما تركته لي يا صديق، حتى أنت تكتب الشعر !