مقاطع من رواية "رؤى الناظرة من يرمق"

استدعت سائر المناسبات البشرية حضور الأجساد لسببٍ ما، واحتوت جميعها غياب من تجاهل هذا الاستدعاء. وقفتُ حاضرةً منتصبةً في قاعة هائلة لم أرها من قبل، ولم أعلم حتى بوجودها في القصر لأرى أشد المناسبات جمالاً في يرمق. حولي تمايلتْ بفعل الغبطة الأجساد الملتفة بالخيوط والأثواب الزاهيةِ بهدوء ألوانها، وأمامي تراقصت المرايا المتحركة في أنحاء البهو الكبير، لتعكس جمال امتزاج الألوان على الأجساد المتمايلة، وكسُمِّ أجنحة الفراشات الزاهية بألوان البهاء، سُكِبَت العصائر والسوائل ألواناً مغذية للزجاج والأعناق.
تطايرت بتلات الورود في هواء البهو الرئيسي للقاعة، وأمست الزهور على أرضياته التي زهت بمختلف أنواعها تعكس أضواء الحياة. وزعت نسوةٌ قاهيات على الحضور أوراق أشجار اللحاق الحمراء القانية المغلفة لقوارير عطور ذات الشجرة، وتداولت الأنوف خدراً حققه الطيب المفعم بالروائح.
تدلت الحرائر الناظرية المطرزة من الأسقف العظيمة المرسومة والمرصعة بالأحجار، ولم يزعج النظر سوى أجزاء الأرضية الحجرية المغطاة بأكملها بالفراء الغنية المشبعة بالألوان الناظرية. فلأن ألوان الحمرة المورَّدة كانت طاغية على بقية ألوان الأرض، أحسست بنفسي واقفةً على الدماء التي أهدرت في سبيل هذا الغنى الفاحش المريع. امتزج جمال القاعة ببهاء بهوها، وتراقصت اللوحات العديدة المعلقة على الحيطان مع المرايا المتحركة، وتقاسمت انعكاسات الضوء وصلاتها مع الحرائر والأقمشة، وانضممت أنا بأصباغ وجهي وأثواب جسدي لهم، لنشكل مجزرة ألوان هذا الزواج.
رأيت دون الألوان، فحدَّقتُ في الكهل "القاهي" اليرمقي -الذي كان سيشرف على مراسم الزواج الدينية- لخلوه منها. تساءلت عن سبب كبر سن جميع القهاة والقاهيات في يرمق، كانت شقيقتي رامقة قد تحدثت عن الموضوع ذاته في يومٍ مضى... أذكرها لسبب ما تقول: "من منا يتجه للدين في شبابه؟ القليلون فقط، وباقتراب الموت يتزايد البحث عن معنى روحي أعمق للحياة، أو بالأحرى يتزايد البحث عن الحياة التي تليها، وعن مرحلة الشباب التالية التي يعود المرء للابتعاد عن الدين فيها... فمع أني قد أكون أكثركن عدم مبالاة بالدين حالياً، لا تستغربن إن غديت أنا نفسي قاهية في يومٍ ما."
فتحت البوابة الرئيسية للبهو فجأة، لحظت خلال فتحها أنها نقشت بكلمات وصور من واجبها مباركة الزواج الآتي. دخلت أخيراً زوجة أخي المستقبلية التي كانت قد وصلت للتو من مملكة أرى، كون العرف اليرمقي يُقر أهمية زواجها حال وصولها. شعرتُ بارتباك ملامح شقيقتي رامقة الماثلة أمامي عندما أعلن عن وصول الأميرة لافينيا ابنة أرى لحفل مراسيم الزواج.
دخلت الأميرة الشابة بملامحها الآرية الباهتة، وأثوابها الهائلة الفضفاضة الأشد بهتاً، وتحركت وسط احتقان زهو الألون. بدأ القاهي مراسم الزواج حال وصول الأميرة لافينيا البطيء إليه، ووقعت هي وثيقة زواجها وختمتها بالختم الملكي الآري أمام أحاديثه باللغة اليرمقية وتعاريج وجهه.
تركتْ أنظاري القاهي المضطرب واتجهت إلى القاهية المستقبلية المحتملة. كانت رامقة لا تزال مضطربةً في وقفتها بجوار أختي ليت التي اتخذت من الكبرياء الخاوي هوية لها. لحظت أخيراً الفجوة ما بين رامقة وليت اللتان وقفتا في جهة البهو المقابلة لنا أنا ورائية وفانية. لم نكن شقيقاتٌ ستٌ في مقابلة بعضهن. رمقت رامقة رائية بنظرة قلقٍ مشيرةً إلى الفراغ الذي كان بينها وبين ليت. عندما استدارت رائية لوصيفتها لتهمس في أذنها بضع كلمات قلقٍ هي الأخرى، تأكدت أن ما أقلقهما هو احتواء هذه المناسبة لغياب أميرةٍ جاهدت لتتجاهل الاستدعاء.
*
في تمام الساعة العاشرة وسبع وخمسين دقيقة صباح يوم الاثنين الذي صادف الأول من تموز عام 1035 للزواج تم تزويج الأمير رامق ابن عبدالعزيز اليرمقي، الابن الوحيد لملك يرمق، من الأميرة لافينيا ابنة أرى، صغرى بنات ملك أرى، لصياغة حلف سياسي بين المملكتين حيث وقعت الأميرة لافينيا الآرية وثيقة زواج كان قد وقعها من قبلها الأمير رامق اليرمقي.
تم الزواج وفقاً للعرف الملكي اليرمقي حيث أنه لم يسمح للأمير رامق برؤية زوجته إلا بعد مضي ستين يوماً على عزلتها بعد توقيعها لوثيقة الزواج. كان حفل الزفاف أسطورياً ومكلفاً لخزانة المملكة، حيث أنه تم استيراد جميع المستلزمات من مملكة ناظر وغيرها من الممالك الأخرى. حضر الزفاف آلاف النبلاء والمدعوون الملكيون، إلى جانب العائلة الحاكمة اليرمقية بأكملها عدا الأمير رامق اليرمقي -بطبيعة الحال- والملك عبدالعزيز اليرمقي الذي تخلف عن الحضور كذلك. ذلك إلى جانب الأميرة جهاد اليرمقية التي توارت عن جميع الأنظار في تلك الدقائق التاريخية.
*
دخلت ثلاث من وصيفات القصر الملكي اليرمقي من خلال باب زجاجي كالمرآة إلى مقصورة إحدى أميرات يرمق بخطى مرتبكة، مترددة، وشديدة الرهبة المشبعة بعدم الاتزان. رمقت الوصيفة الأولى للأميرة المعنية تابعتاها وأشارت بهدوء بعينيها إلى الستائر المخملية التي دفعت الضوء بعيداً عن الرؤية. اقتربت الوصيفتان التابعتان من النافذة الرئيسية في المقصورة، والتي واجهت سريراً ملكياً بحجم أكواخ الكثير من سكان مملكة يرمق. توقفت أنفاس جميع الوصيفات للحظة تحركت الفتاة النائمة على السرير العظيم فيها. كانت الفتاة قد أدارت وجهها بعيداً عن الوسادة الذهبية، وقربته من الوسادة البنفسجية المهملة ولكنها –حالما استنشقت قليلاً من الإهمال- أعادت وجهها إلى الوضعية التي كان فيها بعزة نفس لاواعية وغارقة في نهر النوم.
تتابعت خفقات قلب الوصيفات الثلاث، وأخذت الوصيفة الأولى تقود الطريق نحو الستائر المريعة التي أثارت الرعب في نفوس الكثير من النساء. قربت إحدى الوصيفات يدها من المخمل المسدل الحاجب للضوء، وبعد تلاوة الأدعية والصلوات الإلهية لامسته. تحركت الستائر بعنفٍ حال ملامسة اليد الإنسانية لها معلنةً التسلل المريع إلى المقصورة، وأطلقت بذلك الضوء المتسلل بدوره إلى وجه الفتاة النائمة على السرير العظيم. أحس الوجه بنور غير مرغوب فيه يحرقه، وبدأت الرموش المقوسة بالحراك بهدوءٍ واتزانٍ ملحوظ.
ملأ الرعب والذعر نفوس الوصيفات الثلاث، وفقدن السيطرة على ما تبقى لهن من منطق، وأخذن يصارعن الستائر المخملية بعنف شديد، ويدفعن بها إلى أقصى الحائط ليسمحن بضوء الشمس باحتلال الغرفة واغتصابها. حالما ملأ الضوء الغرفة فُتحت عيني الفتاة النائمة معلنة حالة من النوم الواعي للمتغيرات البيئية، كانت حدقتا العينين قد صغرتا وكان اللون الأبيض الشاسع المحيط بهما قد بدأ تدريجياً بالاحمرار. اتسعت فجأة حدقتا العينين وطغى السواد الفاحم على البياض المحمر معلناً حالة من الاستيقاظ اللاوعي، فتح الفم المحمر ليتقبل نفساً احتوى القليل مما قدمته المقصورة الملكية من هواء، وتحرك ذراع الفتاة فوري ليصد ضوء الشمس الحارق عنها.
ركعت في الحال الوصيفات الثلاث وتكلمت الوصيفة الأولى قائلة: "مولاتي الأميرة جهاد ابنة عبدالعزيز اليرمقية."
رمقت الأميرة جهاد ابنة يرمق النساء الراكعات لها بنظرة ملأها الكبرياء والغرور والاشمئزاز، وبعد فترة من الصمت المطبق التي تجاوزت السبع دقائق تكلمت. "ما الأمر؟"
"إن الساعة الآن هي الثانية بعد الظهر، ومولاتي الأميرة رائية ابنة يرمق قد أمرتنا بأن-"
رفعت الأميرة جهاد يدها مسافة بسيطة لا تكاد تلمحها العين، ولكنها بذلك أعلنت نهاية الحوار، وأوان خروج الوصيفات الثلاث من مقصورتها، كما أعلنت لنفسها أهمية الحد من سلطة الأميرة رائية على القصر الملكي اليرمقي مستقبلياً. حالما خرجت الوصيفات من المقصورة سُمعت تنهدات الغبطة والفرحة، واتجهت نظرات الأميرة جهاد إلى أرجاء مقصورتها المكونة من ثلاث غرف بحثاً عن أي شيءٍ دخيل على حياتها، استقرت عيناها على رداء حريريٍ أخضر اللون، وعندها تحدثت: "اللعنة!"
*
جلست جهاد ابنة عبدالعزيز تسرح شعرها الأسود الطويل أمام مرآة عكست مزيجاً خادعاً من الحقيقة والكذب. رمقت جهاد شعرها الطويل المجعد المتعرج بكثير من الرضا، ثم أعادت توجيه تركيزها إلى وجنتيها المحمرتين بسبب وهج الشمس، أمسكت بهما ودفعت بهما إلى عمق وجهها وتمنت لو أنها كانت أكثر رشاقة مما هي عليه، ولو أن خديها كانا بذلك أصغر حجماً. انتقلت أناملها إلى حاجبيها المقوسين، وأمسكت بريشة الطاووس التي استخدمتها لرسمهما، وبدأت بإضافة المزيد من الدكنة إلى حاجبين بلون الأبنوس.
وجهت تركيز رؤيتها إلى لونها حالما انتهت من حاجبيها، تأملت لونها القمحي الباهت وتمنت لو كانت أكثر بياضاً وذهباً، عندها أمسكت بالصندوق الخشبي الموضوع أمامها وفتحته وأمسكت بقطعة من الفراء الناظرية وغمستها في المسحوق الذي امتلأ الصندوق الخشبي به، حالما تشربت قطعة الفراء المسحوق الأبيض المذهب استخدمتها الأمير جهاد لإخفاء ما لم يستطع جسدها إخفاءه عن عينيها المنتقدتين من عيوب الوجه، وفجأة غدا وجهها أكثر بياضاً وذهباً.
المصدر :مجلة الروائي