كتاب " الجيش العراقي بين خطورة السياسة وشح السلاح (1958-1921) " ، تأليف د.
قراءة كتاب الجيش العراقي بين خطورة السياسة وشح السلاح (1958-1921)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الجيش العراقي بين خطورة السياسة وشح السلاح (1958-1921)
أ. التأثر بقومية جمعية الاتحاد والترقي التركية
في بداية القرن العشرين تأسست لجنة "الاتحاد والترقي" في الدولة العثمانية بهدف وضع نهاية لحكم السلطان عبد الحميد الثاني المطلق. كانت هذه اللجنة قد دعت إلى تحقيق الحرية والعدالة والمساواة. افتتن بهذه المثل التقدمية الضباط العراقيون وغيرهم من الضباط العرب فانضم عدد منهم إليها فتأثروا بالإحساس الوطني للمشاركة في السياسة، وهم "فعلوا ذلك كمواطنين عثمانيين وليسوا كقوميين عرب"([21]). فقبلوا باستمرار الحكم التركي على شرط أن تُحّسن أحوال العرب الإدارية والاقتصادية والثقافية وأن يخّفف عنهم الظلم([22]).
أجبرت وحدات الجيش العثماني المعسكرة في "سالونيك" عام 1908، والتي كوّن أغلب ضباطها الفئة الأقوى في الاتحاد والترقي، السلطان عبد الحميد الثاني على إعادة العمل بدستور عام 1876. وقد أعطت هذه الثورة الدستورية أملاً جديداً لشعوب الإمبراطورية العثمانية، بخاصة العرب لنيل حقوقهم في الحكم الذاتي. ونقلاً عن "انطونيوس" "ليس في مكان ربما كان الابتهاج أعظم مما هو بين القوميين العرب الذين، في حماسة الخلاص، كانوا قد اخطئوا في إنها حرية حقيقية"([23]).
استقبل إعلان دستور الاتحاد والترقي في العراق بفرح كبير، وقد أنشئت فروع للجنة في بغداد ومدن عراقية أخرى. ونشرت هذه الفروع أفكار الاتحاد والترقي، وبدأ الناس من كل العقائد ينضمون إليها، بينهم بعض الضباط العراقيين([24]). كما انضم آخرون إلى أول جمعية عربية، "الإخاء العربي العثماني"، التي تأسست رسمياً في أيلول 1908 في إسطنبول وكان هدفها الرئيس هو تشجيع استخدام العربية في التعليم في المقاطعات العثمانية العربية([25]).
حاول السلطان عبد الحميد إسقاط لجنة الاتحاد والترقي في نيسان عام 1909 فعُزل الفريق "محمود شوكت باشا" قائد الجيش في سالونيك. وأدى هذا إلى نقل السلطة من المدنيين إلى الجيش عن طريق بعض ضباط الجيش الذين رُفّعوا بسرعة إلى مناصب سياسية عليا([26]).
تطورت الأحداث بعد مدة قصيرة لتسبق تعهدات الدستور العثماني. فلجنة الاتحاد والترقي شرعت باستخدام سلطتها في "حكم الإمبراطورية على أساس التفوق العرقي للعنصر التركي"([27]). فحظرت الجمعيات التي أسستها جماعات غير تركية، كالإخاء العربي العثماني، بحجة إنهم يشجعون على انفصال العرب([28]). بدأت اللجنة تتبع سياسة التتريك مستلهمة بالطورانية، (حركة قومية تركية خالصة). فلم تحقق شيئاً غير إفزاع ومضايقة العرب من احتمال تنازلهم عن ثقافتهم ودمجها في القومية التركية من أجل الحفاظ على وحدة الإمبراطورية([29]).
في إسطنبول أُجبرت الحركة العربية على العمل السري، وبدأت بتأسيس جمعياتها الخاصة([30]). وكانت أول جمعية عربية سرية هي الجمعية "القحطانية". أسس هذه الجمعية ضباط عرب في الجيش العثماني، منهم "عزيز علي المصري"، في نهاية عام 1909 فجذبت الجمعية عدة ضباط عرب أغلبهم عراقيون. غير إنها حُلت بعد مدة وجيزة، وعلى الأكثر بسبب أن نشاطها كان قد أُفشي عنه من قبل أحد أعضائها([31]).
جمعية سرية أخرى، هي العهد، في إسطنبول في تشرين الأول عام 1913 أيضاً شكلت من قبل "عزيز على المصري" وضباط عرب آخرين. كان الضباط العراقيون يؤلفون غالبية أعضاء مجلس الجمعية ومعهم بعض السوريين. من بين الضباط الذين انضموا إلى الجمعية نوري السعيد وطه الهاشمي وعلي رضا وتحسين علي وآخرين([32]). دعا منهاج الجمعية إلى الحصول على الحكم الذاتي للبلدان العربية وبقائها متحدة مع إسطنبول ضمن إتحاد فدرالي، أو وحدة، على غرار وحدة النمسا والمجر. أما الخلافة فتبقى قائمة بحماية الإمبراطورية من دول الغرب الاستعمارية([33]).
امتد نشاط الجمعية ليشمل أيضاً الولايات العراقية من خلال الضباط العراقيين الأعضاء في الجمعية الذين نُقلوا إلى الخدمة في الجيش العثماني المرابط في العراق والولايات العربية الأخرى. فأسس هؤلاء الضباط فروعاً لجمعية العهد في بغداد والموصل. ومن الضباط الذين انضموا إلى فرع الجمعية في الموصل كان منهم "ياسين الهاشمي" و"علي جودت الأيوبي" و"مولود مخلص" و"جميع المدفعي"([34]). وبمرور الوقت زادت الشكوك بينهم وبين الأتراك، وكان هذا أكثر وضوحاً في وحدات الجيش العثماني المرابطة في العراق، وأغلب ضباطها من العراقيين. ففي نهاية شهر تشرين الأول عام 1913 بلغت هذه البغضاء الذروة عندما تشاجر ضباط عراقيون وأتراك في الفرقة (13) المعسكرة في بغداد. لقد أصبح الخلاف خطيراً وكاد يتطور إلى تصادم عنيف لولا تدخل الفريق محمد الداغستاني، قائد قوات بغداد([35]).
أدركت السلطات العثمانية خطورة تعيين ضباط عراقيين في وحدات الجيش المرابط في بلادهم. لذا، بدأت تلك السلطات بنقل بعض الضباط العراقيين من ذوي الرتب العالية إلى مواقع خارج العراق، من بين هؤلاء "رشيد الخوجه" و"ياسين الهاشمي". كما إن الحكومة العثمانية وفي محاولة لإضعاف الحركة القومية العربية في العراق، عينت الضباط العراقيين والعرب من الشباب الطموحين في مناصب قليلة الأهمية التي قدمت لهم فرصة ضئيلة لإظهار عاطفتهم القومية([36]).
قاست الحركة القومية العربية من صدمة خطيرة عندما أعتقل رئيس جمعية العهد (عزيز علي المصري) في شباط 1914. فتسببت أخبار اعتقاله بموجة من الغضب في المجتمع العربي وبين الضباط العرب، بخاصة أعضاء العهد. وعلى أثر تدخل السفارة البريطانية في إسطنبول، أُعفي عن المصري وأُخلى سبيله في 21 نيسان، حيث بعدها غادر إلى مصر([37]).
أصبحت جمعية العهد بلا قيادة وأُغرق الضباط العرب في ارتباك. فقد شنت السلطات العثمانية حملة أخرى ضدهم أدت إلى اعتقال ونقل بعضهم([38]). غير إن الأتراك لم يكونوا قادرين على وضع نهاية لنشاط العهد؛ فهي كانت تؤدي دوراً كبيراً في حركة القومية العربية ضدهم.