You are here

محمد إبراهيم مبروك.. يستحضر تجربة ماركيز!

// هذا هو الإبداع الذي لا يكون القارئ، قبل قراءته، كما هو نفسه بعد قراءته، فثمة تغير هائل يحدثه الإبداع الأدبي الخلاق في المتلقي.//

 
بقلم: مصطفى عبدالله

وجه طفولي، وروح يذكرك على الفور بـ "يحيى حقي"، فكلاهما اختار أن يعيش متأملا بعيدًا عن الصخب والعنف. "محمد إبراهيم مبروك"، أحد فرسان جيل الستينيات، الذي لفت إليه الإنتباه بقصته ذات العنوان الغريب "نزف صوت صمت نصف طائر"!
وأتفق مع صديقي الدكتور "محمد أبو العطا"، أستاذ اللغة الإسبانية بكلية الألسن، الذي قال عنه: "محمد إبراهيم مبروك" كاتب مقل برغبته ضد رغبتنا.
فقد اكتفى بمجموعته الوحيدة، ليدخل عالم الترجمة متخصصًا في نقل السرد الإسباني والأميركي اللاتيني بحس الأديب، هكذا فعل في كتابه "رقص الطبول" الصادر عام 2009 عن هيئة قصور الثقافة، في سلسلة "آفاق عالمية"، الذي قدم من خلاله إلى المكتبة العربية أعمالًا قصصية من: البرازيل وشيلي والأرجنتين وكولومبيا وجواتيمالا وفنزويلا وكوبا، والمكسيك التي ترجم قصة "تاليا" لمؤلفها "خوان رولفو"، الكاتب المكسيكي الأشهر على الإطلاق، والأب الحقيقي للواقعية السحرية في الكتابة الأدبية.
ولد في بلدة "سيولا" المكسيكية عام 1917 م، وتوفي في "مكسيكو سيتي" عام 1986، ورغم قلة إنتاجه الأدبي، المتمثل في مجموعة قصصية "الشهب الملتهب"، ورواية وحيدة "بدرو بارامو"، إلا أن كبار النقاد يرونه أحد أهم الكتاب العالميين في القرن العشرين، بل إنه، وفق نتائج استطلاع رأى قامت به دار النشر الإسبانية "الفاجورا"، ضاهت قامة "خوان رولفو" قامة الأرجنتيني العظيم "خورخى لويس بورخيس"، وإن كان هناك سبب لهذه القيمة الكبيرة التي نالها "رولفو" في الأدب العالمي، فلن يكون سوى كتابته لروايته الخالدة "بدرو بارامو" التي قام أديبنا "محمد إبراهيم مبروك" بتقديم ترجمتها العربية التي أنجزتها "شيرين عصمت"، وصدرت مؤخرًا عن ذات السلسلة "آفاق عالمية".
ودعونا نتأمل كيف نظر "مبروك" إلى هذه الرواية: "بدرو بارامو" هي صرخة وجود من جرح غائر لم يندمل طوال العمر، صرخة عابر لجحيم حياته بلا جلد يحميه، فلا هو ينتهي عند نقطة يتوقف عندها، ولا الجحيم يخبو، فكانه الصوت الوحيد وسط الهمسات المتواصلة القاتلة لأموات يسعى بينهم للعثور عليهم، باحثًا عن جذوره، وعن سماوات لحلمه بالخلاص من كوابيسه، ولا خلاص على الأرض، ولا سماوات تتسع لما ضاقت الأرض به، الأرض الجحيم التي قامت على جمر متقد.
ويستحضر "مبروك" تجربة "جابرييل جارثيا ماركيز" مع هذه الرواية: كان يقيم في "المكسيك" لفترة من الفترات لحضور مؤتمر أدبي، ولم يكن قد أصدر حتى ذلك الوقت سوى روايتيه "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، و"جنازة الأم الكبيرة"، وبعدهما أحس "ماركيز" أنه يقف في نهاية حارة سد، عاجزًا عن اكتشاف دروب أخرى لإبداع جديد، وكان يعاني تحت وطأة هذا التوقف، حتى أهداه يومها أحد الأصدقاء كتابًا صغيرًا، وقال له: "إقرأ هذه اللعنة كي تتعلم"، ولم يكن هذا الكتاب سوى رواية "بدرو بارامو".
يواصل "ماركيز" كلامه: "أخذتها، ولم أنم ليلتها إلا بعد أن قرأتها مرتين، وظللت طوال الأشهر الستة الباقية من العام غير قادر على قراءة أي عمل أدبي آخر، وكان ذلك في الفترة التي سبقت كتابة "مائة عام من العزلة".
ويقول "مبروك" معلقًا على حكاية "ماركيز" مع "بدرو بارامو": هذا هو الإبداع الذي لا يكون القارئ، قبل قراءته، كما هو نفسه بعد قراءته، فثمة تغير هائل يحدثه الإبداع الأدبي الخلاق في المتلقي، وبالتحديد في المتلقي المبدع، الذي ربما يتغير مصير حياته، ومصير إبداعه، بسبب واقعة مثل هذه.
ولأن "بدرو بارامو"، عندما صدرت، كانت بمثابة "انفجار" روائى مبهر، فقد تنبه لها كل كتاب جيله، وتوقفوا كثيرًا أمامها، بإعجاب وتقدير، وإن لم يخل الأمر من إساءة الفهم، وربما الحسد، وربما العجز عن استيعاب ما فوجئوا به، ذلك الإنجاز الذي كان محفزًا عظيمًا لكثيرين كي يسيروا في هذا الطريق الذي شقه "خوان رولفو"، ومنحه لقب "الأب" لجيل كتاب الواقعية السحرية.
وقد شهد كبار كتاب الجيل الذي عاصر ظهور هذه الرواية بتفردها، فقال عنها "بورخيس": "إنها واحدة من أفضل الروايات في الأدب الإسباني، بل والأدب العالمي كله". كما قالت عنها "سوزانا سونتاج": "هى لا تعتبر فقط من الروايات الرائدة في القرن العشرين، بل هى أيضًا من الأعمال الأكثر تأثيرًا فى القرن نفسه". كما قال عنها "كارلوس فوينتس": "هذه أفضل رواية مكسيكية على الإطلاق، جددت الأدب المكسيكى وزادته خصوبة".
ورغم مكانته العظيمة التي حققها "خوان رولفو" في الأدب العالمي، إلا إنه عندما سئل عن ندرة إبداعه، أجاب: "لست كاتبًا محترفًا، إننى مجرد هاوٍ، أكتب عندما تواتينى الكتابة، وعندما لا تأتى، لا أقدم عليها أبدًا".
ولأن هذا القليل الذي قدمه "خوان رولفو" هو جوهر الإبداع، وما ينتجه من أثر باقٍ، تكون العدالة في أن يبقى في قلب التراث الإنساني كل مبدع يسطر لنا نصًا، حتى ولو كان صفحة واحدة تنطوى على إضافة لما سبقه، ويلقى، إلى هوة العدم، تلال الكتب التي لا تضيف جديدًا، سوى أنها كتابة بلا كتابة.

Article Publisher: 
ميدل ايست اونلاين

أخر الأخبار

يسرقون الصيف من صندوق الملابس نزار أبو ناصر

يسرقون الصيف من صندوق الملابس

نزار أبو ناصر

 

صدر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021 ديوان " يسرقون الصيف من صندوق الملابس" للشاعر نزار أبو ناصر.

 منذ أعماله الأولى والشاعر نزار أبوناصر يطرق باب...

تاريخ فلسطين الحديث د. عبد الوهاب الكيالي

تاريخ فلسطين الحديث

د. عبد الوهاب الكيالي

 

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021 كتاب " تاريخ فلسطين الحديث" - تأليف د. عبد الوهاب الكيالي . هذه هي الطبعة الثانية عشرة من الدراسة الجادة والشاملة لتاريخ فلسطين...

لأول مرة كتب عربية وانجليزية رقمية في مكان واحد وفي مكتبة واحدة متاحة للجميع

تعلن شركة ektab عن توفيرها 70,000 كتاب باللغة الانجليزية لمستخدميها مجاناً عبر موقعها الالكتروني www.ektab.com

اطلقت شركة  “اي كتاب” 70,000 عنوانا باللغة الانجليزية من شتى...