قراءة كتاب تتكسر لغتي.. أنمو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تتكسر لغتي.. أنمو

تتكسر لغتي.. أنمو

في هذا الكتاب قراءة لهذه اللغة الشعرية وذلك على ضوء شواهد تم اختيارها لإظهار أسلوب الشاعرة "نجمة إدريس" وبالتالي يحتوي هذا الكتاب على جزئين الجزء الأول دراسة للسيرة الشعرية لنجمة إدريس والثاني عبارة عن نماذج مختارة ونصوص لأجمل ما دونت الشاعرة.

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
وتكتمل صورة ميّ ذات النَفَس العابق بالروحانية والمثالية وبراءة الوجدان الأولى، بصورة جبران وميخائيل نعيمة والتهاويم المهجرية· وكان جبران بالذات مستراحاً شعرياً للعشق والتعلّق ! هل كان السرّ يكمن في صورته الإنجيلية الغامضة المضببة بغبار السنوات والحقب، وهو يربض وراءها ساهماً ومغرياً ومتحفزاً للقفز إلى حاضرنا أنى استدعيناه ؟! هل هو نَفَسه الرومانسي المفرط في تهاويمه وكشفه وماورائيته ؟ هل هي حميمية الملامسة وسحر الرؤيا في موسيقاه وأجنحته المتكسّرة ومواكبه ونبيّه وعواصفه ؟! لعله خلاصة كل ذلك في عين ترصد العوالم الجبرانية من سفح صباها المتوهّج، فتبدو لها جميلة حدّ البكاء، ومشبعة حدّ النشوة· ويأتي ميخائيل نعيمة ليكمل اندياح أرجوحة النشوة بـ نهره المتجمّد وأوراق خريفه وتائهه وطمأنينته وبعدهم يطلّ الشابي بعذوبة صلواته وصباحه الجديد وغابه وطفولته، وانتحابه الرائع أمام الطبيعة والحب والموت·
 
ولعل هذا العالم الشعري السادر في عذوبته وتأوّهه أمام الجمال والألم، بدأ يحفر روافده في وعيي الأول، ويجد له بذوراً يسقيها ويطعمها· فلا غرو أن يأتي النص الأول في مرحلة الثانوية مضمخاً بالشكوى، متبرماً بالحياة، باحثاً عن وجهها الآخر المفقود ! ويقيني أن ذلك ما كان (ذنب) جبران ونعيمة والشابي، بقدر ما هو استعداد نفسي أصيل، وميل إلى معاينة خلل الحياة ونقصها، ودفاع عن النفس ضد كل ما يمضّها من هشاشة وتهافت وعريّ·
 
في سنتي الأولى في الجامعة يفاجئني نزار قباني لأول مرة! وكأني به يشبك ذراعي ويأخذني معه إلى ردهة أخرى حيث الموسيقى·· والموسيقى الخالصة ! لقد ظل نزار قباني من أكثر الشعراء غراماً بموسيقى الشعر، يعزفها حيناً بانسيابية مذهلة، ويعزفها أحياناً بصخب وبهرج واحتفالية عالية النبرة، ويدعو من يقرؤه أن يوقّع بأصابعه وأقدامه رغماً عنه ! وطالما رأيت في نماذجه المموسقة خير مثال في تدريس العَروض، بسبب وضوح التوقيع اللحني لديه وصخبه· ويبقى أن لنزار قباني الفضل في تفتحي الأول على شعر التفعيلة في أكثر نماذجه حرارةً ومباشرة· أذكر أن ذلك تزامن مع دروس العروض التي كنا نتلقاها على يد نازك الملائكة في سنتي الأولى في الجامعة، ولكن الاستمتاع بنص الشعر التفعيلي وتذوقه عملياً تم باكتشافي لنزار قباني وموسيقاه الراقصة· وما كان عالم نزار الشعري يقف عند حدّ الموسيقى، أو يتحدد بنصوصه الحرة فقط، وإنما كان لنصوصه العمودية في مجموعات طفولة نهد وقالت لي السمراء وقصائد تجلياتها وأعاجيبها أيضاً، سواءً في الصور الذاهلة، أو المفردات الطازجة، أو الأجواء اللونية فاحشة الثراء· ويظل نزار قباني بتفرّده، وعذوبته، ومشاكساته، وغوصه في الأشياء الحميمة والمشاعر اليومية السهلة الممتنعة مشروعاً للتعلّق والاقتفاء· تماماً كما تبقى أبجديته المميزة في قضايا الحب والجمال والثورة والرفض وحتى في الشتائم والسباب، تاركة بصمتها على جيل بأكمله، عارضه حيناً، وأحبه أحياناً، ولكنه أجمع على جوهر الإبداع والتميّز في معدنه·
 
لقد كان لا بد من كل هذه الوجوه، وكان لابدّ من آخرين قبلهم، وكان لا بد من آخرين معهم وبعدهم، ليستمرّ السفر، ويكتمل المشهد، وتقرُب المسافة، وتدنو العناقيد !
 
ماأصعب أن يحدد الإنسان طريقه العلمي وهو دون العشرين ! إذ رغم تبرعم الوعي وبروز الميول، تظل غمامات الغفلة والتوَهان من سمات الطفولة المتبقية· لا أدري لماذا تُهتُ وأنا في الصف الرابع الثانوي في غابة الاختيارات، وتوجّهتْ أصابع عشوائية نحو تخصصين من تخصصات الجامعة، الحقوق أو الجغرافيا !! وما كان لي نسب مع الحقوق، ولا صلة بالجغرافيا· ولكنها مجرد كرة روليت أقذفها وأظل أراقبها ببرود، حتى تقف عند ما تشاء هي من فجوات وأرقام !
 
ولكن يبدو أن لمخططات أقدارنا أعاجيبها! إذ لا تدري من أين يأتيك ذلك الطائر الغريب لينتشلك بمنقاره من متاهة المنعطفات ولزوجة الطحالب، ويلقيك برفق عند شاطئك لتكمل السباحة حراً نقياً· ما الذي كان يخبؤه لي الطائر الغريب حين أتى بتلك الفتاة السورية الشاعرة بالذات دون سواها، في ذلك العام الدراسي بالذات دون غيره من الأعوام، لتكون معلّمة اللغة العربية لفصلي بالذات دون غيره من الفصول ؟!! ولماذا أشارت عليَّ وكأنها تصوّب بندقية صيد واثقة من رميتها : عليكِ بدراسة علوم العربية دون غيرها ! هل كانت أبلة نوزت أبو شوشة - وهذا هو اسمها - عرّافتي وقارئة طالعي ؟! وهل كان أسلوبي في دروس الإنشاء، وقصيدتي اليتيمة التي صوّبتْ عروضها وأرجلها العرجاء ولثغاتها، كافيين لأن تطلق نحوي رصاصة النجاة، فتنقذني من الحقوق أوالجغرافيا في آخر لحظة، وقبل الانتساب إلى الجامعة بشهر واحد ؟!
 
حقاً إن لأقدارنا أعاجيبها ! أما الترتيب لهذه الأقدار، وتنسيق ملابساتها فتلك أُحجية أخرى !
 
كثيرون يراودون الشعر، وقد ينبغون فيه، دون أن يدرسوا علوم العربية وآدابها· وهذا أمر وارد حين تقودهم السليقة والميل، فيمرون برحاب الأدب وأبهائه كما يمرّ المُتنزّه بالحدائق والبساتين، فتعلق بثيابه روائحها وأنداؤها· ذاك حال المتنزهين والمتريضين من الهواة، ولكن حين تصبح العربية وآدابها قدراً ومهنةً ودرباً من دروب الحياة، فإن العلاقة مع الشعر تتخذ حينها وضعأ أكثر حساسية ورهافة، إن لم يكن أكثر توجساً ومسؤوليةً·
 
كانت الأعوام الجامعية الأربعة ما بين 1972م - 1976م في قسم اللغة العربية أعواماً مهمة في مقام الصقل والتشذيب والإعداد لتلك العجينة الخام التي كنتُها· وكانت أعواماً مهمة أيضاً لتعلّم الالتزام العلمي، والمتابعة الدؤوب للسلم المعرفي وتدرّجاته· وكانت أعواماً مهمة كذلك في مقام الإحاطة المنهجية الشاملة بالمشهد الأدبي والشعري الممتدّ من التراث حتى المعاصرة· ناهيك عما حققته هذه الرحلة المعرفية من تقويم للسان والبيان، وما غرسته من وعي علمي بأدوات التعبير وقواعد اللغة وأصولها· وطوال هذه الرحلة المبهجة حيناً، والمضنية حيناً آخر، لا تستطيع أن تلغي مشهداً وتُبقي آخر، أو تُسقط لبنة وتستند على أخرى· فكله بناءٌ واحد متواشج يتنامى ويتطامن، وكله سيمفونية متكاملة تنداح حتى نهاياتها، لتوقّع ذبذباتها الأخيرة في العقل والذوق واللسان والروح والعاطفة· في هذا العالم السيمفوني الذي يتكوّن في داخلك، لا تستطيع أن تقول أن الشعر أجمل من النحو، أو النقد أيسر من البلاغة، أو الصرف أبسط من علم اللغة· تماماً كما لا تستطيع أن تفضّل طرفة بن العبد على أبي نواس، أو المتنبي على أبي العلاء، أو قدامة بن جعفر على الجرجاني، أو الجاحظ على أبي حيّان التوحيدي، أو أحمد شوقي على بدر شاكر السياب· فأنت لستَ في مقام قبول وإلغاء، أو ميل ونفور· فكلهم حاضر وشاخص في تاريخ آداب الأمة وروحها، وعليكَ أن تتعرفهم وتلامسهم ما دمتَ في طور التعلُّم والأخذ· وها هي أرواحهم ما تزال ترقد بين الصفحات في تلك الكتب المرصوصة حتى الآن بولاء وعناية، أمسح عنها الغبار بين حين وآخر، وأستشيرها حين تعنّ الحاجة· أرواح تآلفت وتقاربت، وانقشع فيما بينها ضباب القرون، وامتزجت بشبابي الباكر هيّنها وصعبها، وسلْسُها وحوشّيها، فقوّمتْ لساني، وكوّنتْ ذائقتي، وأهدتني خيوط المعرفة الأولى·
 
وكما كان للمعلومات المعرفية دورها في التثقيف والبناء، كان لأساتذتنا الأجلاء أثرهم في إشعارنا بقيمة العلم وهيبته، بما توحي به شخصياتهم من جلال ورسوخ ومقدرة· ولعلنا كنّا الجيل المحظوظ الذي عاصر السنوات العشر الأولى من عمر جامعة الكويت· إذ خلال هذه السنوات المبكرة كانت الجامعة تستقدم خيرة العلماء والعقول في شتى فروع المعرفة الإنسانية· ويكفي جيلنا اعتزازاً أنه تلقى علومه على أيدي شخصيات علمية وأدبية مثل نازك الملائكة، وشوقي ضيف، وأحمد مختار، ووديعة طه نجم، وخديجة الحديثي، ومحمد حسن عبدالله، وغيرهم من الشخصيات العلمية·
 
ورغم أهمية مرحلة الجامعة، تبقى ولا شك مجرد جواز مرور اوليّ يؤهل لدخول الحياة، والتعامل مع إشكالاتها ودروبها· ولعل الحياة بعد التخرج أو قُبيله بدأت تتخذ ملامح أكثر إبانة ووضوحاً·

الصفحات