أنت هنا

قراءة كتاب امرأة القارورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
امرأة القارورة

امرأة القارورة

رواية "امرأة القارورة"، للكاتب العراقي سليم مطر، على الرغم من أن هذه الرواية قد لا تكون "رواية" بالمعنى المتعارف عليه.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
في البدء كانت القارورة
 
قبل الولوج في عوالم هذه الحكاية مع (امرأة القارورة) العجيبة، يهمني أن أعلمكم منذ الآن أني لست مسؤولا عنها ولم أشارك في أي من أحداثها وخيالي بريء منها· في الحقيقة إني أجبرت على نشرها من باب الواجب لا أكثر· منذ أن عثرت على هذه الحكاية بطريق المصادفة، قبل أسابيع، وأنا متردد في إحراقها أو رميها في البحيرة· وقد فشلت جميع جهودي لاكتشاف شخصية كاتبها الحقيقي· إني أنشرها ولم أحاول أن أغير في سطورها أية كلمة، تركت المخطوطة كما سلمتني إياها سيدة الحانة·
 
لعله من الضروري أن أحكي لكم باختصار عن ظروف حصولي على هذه المخطوطة، لكي تحكموا بأنفسكم على طبيعة علاقتي بها· وربما تساهمون معي في معرفة شخوصها وحقيقة أحداثها· تم الأمر عندما وصلت منذ أسابيع إلى مدينة (جنيف)· أقول (وصلت)، إنما في الواقع، وجدت نفسي فيها· بعد تيه عظيم خلال أعوام في سوح الحروب وفقدان في عوالم الانفاق، خرجت من أعماق الأرض لأجد نفسي في فجر يوم بارد من شباط 1988، بين صخور شواطئ بحيرة (جنيف)· خرجت مبللاً أبحث عن دفء، فقادتني أقدامي، انا المبهوت، في شوارع المدينة حتى دخلت إلى حانة مطلة على نهر (الرون)· هناك قدمت إلي صاحبة الحـانة كأس نبيذ أحمر وهذه المخطوطة·
 
لم أجد حتى الآن أي تفسير لكيفية حدوث هذه المعجزة· فجأة وجدت نفسي أنتقل من جبهة الحرب بين الأهوار والصحارى الى مدينة لم أعرفها إلا من خلال السمع والقراءة· فأنا ببساطة، كنت امضي عامي السابع في الحرب· منذ الشهر الأول على اندلاعها عام 1981، مسكوني في الشارع وحشروني في بدلة عسكرية، ودربوا يدي على استخدام السلاح، ثم وضعوني في شاحنة مع رجال من أشباهي· رمونا بين الأهوار وقالوا لنا:
 
ـ هذه ارض الأسلاف احفروا فيها مواقعكم، وإن تراجعتم عنها فإننا سنرجعكم إليها مرة ثانية، ولكن على هيئة جثث لندفنكم فيها·
 
طيلة سبعة أعوام لم أكن أدرك من الوجود غير أهوال الحرب وذلك الشوق الدفين للهروب نحو حلم تملكني منذ صباي :(أوروبا)! ما مضى يوم إلا وكنت أرسم من عذابات ورعب الحرب لوحة لأوروبا، كإله تعس يصنع من أطيان كوارثه مخلوقاً سامياً قادراً على منح اللذة لخالقه· من شبقي المكبوت نحت جسد أوروبا، ومن تجارب حُبي الفاشلة صنعت قلبها، ومن حاجتي إلى الراحة والأمان رسمتُ ملامحها الخضراء، ومن توقي إلى العدالة والانعتاق خيطتُ لها ثوباً أبيض فضفاضا يرفرف كأجنحة فراشة ويضمني بين ثناياه كما تضمني أم في عباءتها السوداء· أوروبا صارت مخلصي المنتظر وأرضي الموعودة· حتى عذاباتها كنت أراها تختلف عن عذابات الشرق· جوعها وتشردها وعنصريتها وبؤسها، كان أكثر استساغة من أمثالها في بلادي·
 
خلال سبعة أعوام الحرب قمت بسبع محاولات هرب، انتهت ست منها بالفشل· أما السابعة فنقلتني إلى (جنيف)، لأنها لم تكن بالضبط محاولة هرب قدرما كانت تيهاً في أنفاق المجهول· وإذا كان الحظ قد حالفني في شيء، فذلك بأني خلال سبعة أعوام، تمكنت بأعجوبة من أن أنجو من حكم إعدام نفذ بحقّ الآلاف من الفارين مثلي· أعدموا وعُلقت جثثهم أمام منازلهم ليكونوا عبرة للآخرين، بل إن عوائلهم قد أجبرت على دفع ثمن طلقات قد أعدم بها أبناؤها·
 
يمكنكم أن تقولوا عني إني لم أكن شجاعاً في الدفاع عن بلادي، ولكن إذا كانت الشجاعة في عرفكم تعني التضحية بالنفس، فإني على العكس منكم تماماً، إذ تقاس شجاعتي بمدى تمكني من حفاظي على نفسي· ثم خبّروني باللّه عليكم، هل من الضروري أن تنسحق روحي وتتقطع أوصالي، لكي يجلس القادة المحترمون في النهاية إلى طاولة المفاوضات لتقاسم بضعة كيلومترات عند حدود ملطخة بدماء ملايين بائسة، ثم هل تضمنون لي أن هؤلاء القادة، بعد الانتهاء من مفاوضات الحدود، سيتفاوضون مع الرب لارجاع حياتي التي نهشتها دباباتهم وبعثرتها قنابلهم؟
 
أشد ما كان يقززني ويدفعني إلى التمرد والهرب، صورة شاذة كانت ترتسم في مخيلتي في أثناء تفاقم المحنة:
 
إن قادة الدولتين يتناكحون فيما بينهم ونحن جحافل الجيوش عبارة عن حيامن معتقة يقذفونها في بعضهم البعض· ننسكب نحن شهداء ملذاتهم وهم يرتعشون شبقاً في خطبهم وشتائمهم وتهديداتهم لبعضهم البعض· بعد أن يتعبوا وينتهوا، ينبطحون على ظهورهم في سرير المفاوضـات ويمسحون جبهاتهم ومؤخراتهم من جثثنا، ثم يتعانقون بحب!
 
شجاع إذا ما امكنتني فرصة فإن لم تكن لي فرصة فجبان ··
 
كنت أردد قول (معاوية بن أبي سفيان) هذا خلال جميع أعوام حربي السبعة وجميع محاولات فراري التي بدأت من المصادفة ونمت إلى الضرورة لتنتهي بمعجزة لا واقعية تخطت قوانين الزمان والمكان· فجأة انتقلت من متاهات أنفاق التاريخ، مثخنا بجراح الآلاف من أسلافي وابناء جلدتي، لكي أخرج الى نور الحاضر وهو يغمر مدينة لا أعرف منها غير اسمها وهذه الحكاية العجيبة التي سأعرضها لكم في فصول قادمة·

الصفحات