كتاب "الفتاوى الكبرى" - الجزء الأول، يضم بأجزاءه الخمسة عشر فتاوى الإمام ابن تيمية في أغلب المسائل الشرعية، حيث يجد فيه المسلم ضالته في الإجابة على كثير من التساؤلات التي تعترضه في أموره الدينية والدنيوية، والتي من خلال هذه الفتاوى يسير على هدي الكتاب والسن
قراءة كتاب الفتاوى الكبرى الجزء الأول
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
وَكَذَلِكَ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ الرَّحْمَةَ ، كَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَكَجَوْفِ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، هِيَ أَوْقَاتٌ مَحْدُودَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ ، وَيُنْزِلُ فِيهَا مِنْ الرَّحْمَةِ مَا لَا يُنْزِلُ فِي غَيْرِهَا ، وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ طُرُقِ أَحَادِيثِ الْكُسُوفِ ، مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنْ إذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ } .
وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو حَامِدٍ وَنَحْوُهُ ، وَرَدُّوا ذَلِكَ لَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ قَلِيلُو الْمَعْرِفَةِ بِهِ ، كَمَا كَانَ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ : أَنَا مُزْجَى الْبِضَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ سَبَبَ الْكُسُوفِ إذَا كَانَ مَثَلًا كَوْنُ الْقَمَرِ إذَا حَاذَاهَا
مَنَعَ نُورَهَا أَنْ يَصِلَ إلَى الْأَرْضِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَ ذَلِكَ بِالتَّجَلِّي .
وَالتَّجَلِّي الْمَذْكُورُ لَا يُنَافِي السَّبَبَ الْمَذْكُورَ ، فَإِنَّ خُشُوعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِلَّهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إذَا حَصَلَ لِنُورِهِ مَا يَحْصُلُ مِنْ انْقِطَاعٍ يُرْفَعُ تَأْثِيرُهُ عَنْ الْأَرْضِ ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ سُلْطَانِهِ وَمَوْضِعِ انْتِشَارِهِ وَتَأْثِيرِهِ ، فَإِنَّ الْمَلِكَ الْمُتَصَرِّفَ فِي مَكَان بَعِيدٍ لَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَذَلَّ لِذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَالْمُدْبِرَاتِ أَمْرًا } .
فَالْمُدَبِّرَاتُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ ، وَأَمَّا إقْسَامُ اللَّهِ بِالنُّجُومِ ، كَمَا أَقْسَمَ بِهَا فِي قَوْلِهِ : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } .
فَهُوَ كَإِقْسَامِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ، كَمَا أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ قَدْرِ الْمُقْسَمِ بِهِ ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْعِبْرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ ، وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْقُلُوبُ بِهِ ، أَوْ يُظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْعِدُ الْمُنْحِسُ ، كَمَا لَا يُظَنُّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى ، وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى } .
وَفِي { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا } ، وَفِي { وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ .
وَاعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ نَجْمًا مِنْ النُّجُومِ السَّبْعَةِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِسَعْدِهِ وَنَحْسِهِ ، اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ دُعَاؤُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ كَانَ كُفْرًا وَشِرْكًا مَحْضًا ، وَغَايَةُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ أَنْ يَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَلَدِ حِينَ وُلِدَ بِهَذَا الطَّالِعِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْمَوْلُودِ ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا
يُوجِبُ مَا ذُكِرَ ، بَلْ مَا عُلِمَ حَقِيقَةُ تَأْثِيرِهِ فِيهِ ، مِثْلُ : حَالِ الْوَالِدَيْنِ ، وَحَالُ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ مَحْسُوسٌ فِي أَحْوَالِ الْمَوْلُودِ ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هَذَا مُسْتَقِلًّا .
ثُمَّ إنَّ الْأَوَائِلَ هُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ الْمُشْرِكِينَ الصَّابِئِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ ، قَدْ قِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا إذَا وُلِدَ لَهُمْ الْمَوْلُودُ أَخَذُوا طَالِعَ الْمَوْلُودِ ، وَسَمَّوْا الْمَوْلُودَ بِاسْمٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِذَا كَبِرَ سُئِلَ عَنْ اسْمِهِ أَخَذَ السَّائِلُ حَالَ الطَّالِعِ ، فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الطَّرَقِيَّةُ يَسْأَلُونَ الرَّجُلَ عَنْ اسْمِهِ وَاسْمِ أُمِّهِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحْوَالِهِ ، وَهَذِهِ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، مُنَافِيَةٌ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ .
وَأَمَّا اخْتِيَارَاتُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الطَّالِعَ لِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ ، مِثْلُ : اخْتِيَارِهِمْ لِلسَّفَرِ أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ فِي مِثْلِ شُرُوقِهِ وَهُوَ السَّرَطَانُ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي هُبُوطِهِ وَهُوَ الْعَقْرَبُ ، فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْمَذْمُومِ .
وَلَمَّا أَرَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُسَافِرَ لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ عَرَضَ لَهُ مُنَجِّمٌ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَا تُسَافِرْ ، فَإِنَّ الْقَمَرَ فِي الْعَقْرَبِ ، فَإِنَّك إنْ سَافَرْت وَالْقَمَرُ فِي الْعَقْرَبِ هُزِمَ أَصْحَابُك ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : بَلْ نُسَافِرُ ثِقَةً بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَتَكْذِيبًا لَك ، فَسَافَرَ فَبُورِكَ لَهُ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ حَتَّى قَتَلَ عَامَّةَ الْخَوَارِجِ ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا سُرَّ بِهِ ، حَيْثُ كَانَ قِتَالُهُ لَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُسَافِرْ وَالْقَمَرُ فِي الْعَقْرَبِ } .
فَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " إنَّهَا صَنْعَةُ إدْرِيسَ " .
فَيُقَالُ أَوَّلًا : هَذَا
قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ ، وَلَا سَبِيلَ لِهَذَا الْقَائِلِ إلَى ذَلِكَ ، وَلَكِنْ فِي كُتُبِ هَؤُلَاءِ هُرْمُسُ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ إدْرِيسُ ، وَالْهِرْمِسُ عِنْدَهُمْ اسْمُ جِنْسٍ ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ هُرْمُسُ الْهَرَامِسَةِ ، هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ عَنْ هِرْمِسِهِمْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ مَأْخُوذًا عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ .