لقد قامت مجموعة من كتّاب الرواية العربية -لا سيما في الستينيات- بالعودة إلى التراث السردي العربي، في إطار حركة موسعة ثارت على تقاليد الكتابة الروائية التي أرساها كتّاب الرواية الرواد والجيل الذي تلاهم؛ فألفوا شكل الرواية الغربي مهيمناً على تجارب الكتابة باس
قراءة كتاب الرواية والتراث ألف ليلة وليلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
عوامل رجوع الرواية العربية إلى التراث
بدأت الرواية العربية متأثرة بالرواية الغربية الإنجليزية والفرنسية، ترجمة وتقليداً، وحين انتهت هذه المرحلة "ابتدأ إبداعنا القصصي، دخل فيه بالتأكيد وعلى القطع كل موروثنا القصصي، وأثر فيه لا شك ما حمله لنا تراثنا من أشكال فنية قصصية سابقة"[20].
وبسبب الأوضاع الثقافية التي سادت الوطن العربي في بداية القرن العشرين، اتجه نظر الكتَّاب إلى الغرب بوصفه مثلاً أعلى للتقدم والازدهار، وحاولوا الاستفادة من منجزاته الحضارية لا سيما في مجال الرواية، ظناً منهم أنّ مواجهة الواقع والتمرد عليه يَعْنيان الثورة على التراث العربي القديم، ومنافسة الحضارة الأوروبية والتفوق عليها. وقد أدى اندفاعهم بهذه الرغبة إلى وقوعهم فريسة للتبعية في كثير من الأحيان، وأصبحت قيمهم ومثلهم لا تنبع من الواقع الذي يعيشون فيه[21]. وبعد نكسة 1967 أصبح السؤال أكثر إلحاحاً عن ضرورة استقلالية الشخصية العربية والبحث عن القيم التي تشكل هذه الشخصية؛ مما أدى إلى ضرورة العودة إلى التراث العربي، وتوظيفه للتعبير عن الواقع المعيش، وخلق خصوصية قومية للرواية العربية.
ونلاحظ أن أوائل الروائيين الغربيين من مثل: دانييل ديفو (1660-1731)، وصموئيل ريتشاردسون (1689-1761)، وهنري فيلدنغ (1707-1754)، قد "انفصلوا انفصالاً قاطعاً عن التراث وأطلقوا الأسماء على شخصياتهم بالطريقة التي توحي أن الواجب يقضي اعتبارهم أفراداً معينين في الوسط الاجتماعي المعاصر"[22]. لذلك فإنَّ حبكة الرواية متميزة عن معظم القصص التراثية السابقة "باستخدامها خبرة الماضي على أنها سبب الفعل الراهن، أي إحلال العلاقة السببية العاملة خلال الزمان محل اعتماد القصص القديم على المواربات والمصادفات، الأمر الذي يميل إلى إضفاء بنية أشد تلاحماً على الرواية، بل وما هو أهم من ذلك هو الأثر الذي يبقى على رسم الشخصيات من جراء إصرار الرواية على العملية الزمانية"[23]. ومع ذلك فإن الرواية ما هي إلا امتداد لموروث في غاية القدم والتبجيل[24]، علاوة على كونها متطورةً عن الملحمة، أو هي مظهر "من مظاهر روح الملحمة تحت تأثير مفهوم حديث وباهت عن الواقع"[25].
وقد يكون السبب في عودة الرواية العربية إلى التراث هو طبيعة المضمون الروائي الذي يتفق "في كثير من عناصره وجزئياته مع ما هو مألوف في التراث ومع ما ينسجم مع طبيعة القيم والأفكار والتقاليد العربية. وهي جزئيات وعناصر لا تنفصل عن الشكل إن لم تكن شكلاً خالصا مما يمكن أن تعد استمرار الصور معروفة في التراث والواقع"[26].
كما قد تكون العودة إلى الأشكال التراثية المختلفة للإفادة من هذه الأشكال، وليس يهدف استدعاؤها لمجرد التأكيد على وجود تراث سردي عربي في مقابل الرواية الغربية. وقد تكون من أجل "الإفادة من تنويعات شكلية تراثية من مثل السير الشعبية، وكتب الأنساب، والطبقات، والتراجم، والتراث الشعبي من مثل حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها. ينبغي ألا تُعدّ العودة إلى الماضي بحثاً عن شكل عربي أصيل، أو عودة إلى أشكال منجزة، مثلما ينبغي ألا تعد صورة وحيدة مقترحة لشكل الرواية"[27].
إنّ تشكيل العمل الروائي هو الذي يفرض درجة العودة (الحضور أو التوظيف) إلى التراث السردي العربي القديم، أو قد يفرض درجة الإفادة من هذا التراث.
وقد أورد الغيطاني أسباباً عدة إلى العودة للتراث، نجملها بما يأتي:
1- إنّ العودة إلى التراث تعزز فهم الواقع المعيش الذي يدخل في نسيجه؛ لأن التاريخ هو الزمن في ديمومته وصيرورته[28].
2- جاءت العودة للتراث في الكتابة الروائية بوصفها ردة فعل على الاستعمار، وخلق وعي بالذات "من خلال مرحلة الاستقلال الوطني والكفاح ضد الاستعمار، خاصة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين"[29].
3- هذا السبب قد يبدو مناقضاً للثاني، ولكنه الوجه الآخر له. إذ حدث خلال السبعينيات تراجع عن منجزات التحرر الوطني لبلادنا. وتعرضنا لموجات من الغزو الاستعماري الجديد الذي لا يستهدف الجوانب الاقتصادية حسب، بل يهدف إلى تشويه الذات وقلب القيم الحضارية لمجتمعنا[30].
4- محاولة خلق "أشكال فنية جديدة"[31] مغايرة للكتابة الغربية والتراثية في آنٍ، مما يشكل تجربة خاصة للكاتب.
ولعل نكسة حزيران (1967) كانت سبباً سياسياً وقومياً أدى إلى مراجعة الذات العربية (الثقافة العربية) لنفهسا، فأخذت تتساءل عن سبب هذه الهزيمة التي أدت إلى فقدان الذات ثقتها بنفهسا وبحاضرها؛ مما ساعد في التشكيك بمعطيات الحاضر، ومحاولة الرجوع إلى التاريخ (التراث) للبحث عن ظروف مشابهة تساعد على فهم الواقع المعيش بعد الهزيمة. وهل هناك في التاريخ العربي ما يلتقي مع الواقع المعيش؟ وهل التاريخ يعيد نفسه باختلاف الزمان والمكان؟ علماً أنَّ التاريخ لا يعيد نفسه إلا بشكل محاكاة ساخرة؛ لأن التاريخ لا يعيد نفسه أحداثاً بل عبراً.
لقد كانت مرحلة نهاية الستينيات من القرن العشرين تمثّل إعادة التوازن للحاضر عن طريق الرجوع إلى الماضي، وعن طريق رفض الآخر بالتخلي عن الشكل الروائي الغربي، والبحث عن شكل روائي عربي، يستلهم الأشكال القصصية التراثية الشعبية من مثل: ألف ليلة وليلة -على سبيل المثال لا الحصر-.
وقد وعى بعض الكتّاب قيمة العودة إلى تراثهم القصصي مستلهمين بنيته، لا سيما بعد هذه النكسة التي أحدثت هوة سحيقة في بنية المجتمع العربي؛ نتيجة شعورهم بفقدان الهوية، فجاء ارتباطهم بالتراث نابعاً من وعيهم بالحاضر وإدراكهم للماضي. فكان التراث هو المنهل الذي استقى منه بعض الروائيين "مادتهم الإبداعية للتعبير عن التحديات القائمة. ففي ظل واقع يموج بالهزائم العسكرية والنفسية، لا يجد الكتّاب مناصا من التمسك بجذورهم القومية"[32]، وذلك من أجل فهم أكثر وعياً لذاتهم وواقعهم، ومن أجل التخلص من التبعية للآخر.
أما على مستوى المضمون، فقد لجأ الكتّاب إلى اتخاذ الشخصيات التراثية قناعاً للتعبير عن واقعهم المعيش، يسوقون آراءهم من خلالها، دون أن يتحملوا المسؤولية المباشرة عن هذه الآراء؛ مما أتاح لهم حرية أكبر في التعبير واستخدام الشخصيات التراثية بطريقة إسقاطية على الحاضر. وقد مكَّنهم هذا الاستخدام من أن يستتروا من بطش السلطة في جانب، وفي جانب آخر فقد حقق ذلك غنى من الناحية الفنية[33]. لا سيما إذا كان استلهام التراث مقوماً أساسياً للرواية "وعنصراً أساسياً فاعلاً في السرد، وليس مجرد "خلفية" أو "ديكورا" للرواية"[34].
وفي مصر تحديداً، فإنَّ "فكرتي القومية المصرية والشخصية المصرية، قد ربطتا بين المفكرين والأدباء المصريين وبين الواقع، ودفعتهم إلى التأثر بالثقافة والأدب الغربيين مما ساعد على ظهور الرواية الفنية التي ترتبط بالواقع من ناحية. ومن ناحية [أخرى]، فقد مهد ذلك لازدهار الرواية التاريخية بوصفها تعبيراً عن حماس قومي يهدف إلى بعث أمجاد الماضي، ويستلهم من هذا التاريخ المعاني التي تدفع إلى طريق المستقبل"[35].
ولعل من أهم أسباب العودة إلى التراث الشعبي في الرواية العربية الفلسطينية تحديداً، تأكيد الهوية الثقافية العربية، لا سيما في أعمال إميل حبيبي (رواية سرايا بنت الغول مثلاً) للحفاظ على الهوية العربية في مواجهة سياسة التهويد العنصرية الصهيونية. "فالمقاومة المسلحة تقاوم الغزو المادي الصهيوني، والمقاومة الأدبية تتصدى للغزو الروحي والثقافي. ويقدم إميل حبيبي تجربة فريدة حية وأنموذجاً فذاً يؤكد أصالة الفن القصصي والروائي العربي وإمكانات إبداع رواية عربية أصيلة نابعة من تراثنا وروحنا وقيمنا وهمومنا ولا تقع في أسر الشكل الروائي الغربي"[36]. فالعودة إلى التراث العربي هي تأكيد على أن الفلسطيني جزء من الأمة العربية وليس من الكيان الصهيوني، وهذا يعكس موقفاً ثقافياً وسياسياً في آن.