أنت هنا

قراءة كتاب الصوت والمعنى في الدرس اللغوي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الصوت والمعنى في الدرس اللغوي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث

الصوت والمعنى في الدرس اللغوي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث

كتاب " الصوت والمعنى في الدرس اللغوي عند العرب في ضوء علم اللغة الحديث " ، تأليف د.تحسين عبدالر

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

المحور الثالث: نظريات نشأة اللغة

ما دمنا في معرض الحديث عن اللغة واصطلاحاتها التي تعين الباحث على الدرس والتقصي، ولا أشك في أن العرب قد عنوا بدراسة اللغة عناية لا تفوقها أي عناية، لأن العرب قد استقروا لغتهم استقراءاً دقيقاً، بما ألفوه من كتب تدرس مفرداتها، ووضعوا تواعدها، وبذلك صح أن يتسم الدرس اللغوي عند علمائنا العرب بالعلمية. وهم في ذلك سبقوا أمماً كثيرة في هذا الموضوع، على أنني أرى أن جل ما جاء به اللغويون المحدثون في دراساتهم في المجال اللغوي قد قال به اللغويون العرب القدامى، إذ لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا كانت في مجالات درسهم، مع فارق في المنهج والمصطلح والمعالجة؟ وذلك للتقدم الحضاري والفكري الذي شهدته الدراسات اللغوية، فالمحدثون قد أضافوا المنهج، ووضعوا المصطلحات، ونظروا القضايا، لتكون ملبية لحاجات الدرس الحديث ومواكبة التطور في واقع الدرس.

ومن المسائل التي كانت محوراً لدراسة العلماء العرب القدماء قضية نشأة اللغة، على الرغم مما قيل عن هذا النوع من الدرس اللغوي في العصر الحديث، وبالتحديد منذ مطلع القرن التاسع عشر، فقد كان همهم - اللغويين المحدثين- أن يتوصلوا إلى حل لهذا المشكل اللغوي، ولكنهم فيما يبدو في كل ذلك كانوا يدورون في حلقة مفرغة من الدرس، حتى عد كثير من اللغويين هذا الدرس من القضايا غير اللغوية، ولذلك قررت الجمعية اللغوية في باريس، في أول نظام صدر لها عام 1866م، ألا تسمح بمناقشة أي بحث من البحوث التي تتناول أصل اللغة([68]).

ويعلل لذلك اللغوي الفرنسي فندرس([69]) بقوله: (فغالبية أولئك الذين كسبوا عن أصل الكلام منذ مئة عام يهيمون في تيه من الضلال؟ لأنهم لم ينتهوا إلى هذه الحقيقة، وغلطتهم الأساسية أنهم يواجهون هذه المسالة من الناحية اللغوية، كما لو كان أصل الكلام مختلط بأصل اللغات"، والحقيقة التي أشار إليها فندرس هي أن دراسة أصل الكلام ليس من مسائل علم اللغة، لما بين اللغة والكلام من فرق، فكان الدارسين لأصل اللغة إنما مؤهلون للكلام، وهم بهذا قد يقعون في خلط كبير، لأن الكلام شيء، واللغة شيء، كما فصلنا القول في ذلك في المبحث السابق.

وعلى أية حال كان أصل اللغة من مباحث لغويينا العرب القدماء، وقد شغل حيزاً في دراساتهم، وتفكرهم في مجال فقه اللغة بالاصطلاح العربي، وقد أسسوا ثلاث نظريات قالوا بها، وهي:

النظرات الأولى: التوقيف والإلهام.

النظرات الثانية: المحاكاة لأصوات الطبيعة.

النظرات الثالثة: المواضعة والاصطلاح.

ولكل نظرية من هذه النظريات قائلون بها، ولهم أدلتهم التي تدعم ما يقولون، وسأشرع ببحث هذه النظريات بشيء من الإيجاز؛ لأنها من مقولات علماء عرب، على أن كتب فقه اللغة قد فصلت القول في كل نظرية من هذه النظريات. وأمّا النظريات الأخرى التي درسها العلماء المحدثون فلم تخرج من نظريات العلماء العرب. وأمر آخر دعاني إلى البحث في هذه النظريات أنها ذات صلة وثيقة بمقالات العلماء في قضية (الصوت والمعنى) التي هي موضوع الدراسة.

النظرات الأولى: التوقيف والإلهام (الوحي والإلهام):

لمّا أعجب المسلمون باللغة العربية بحثوا فيها، وسحرتهم لغة التنزيل، فكان أن كان من دراساتهم الأولى (مسألة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم)، وجرتهم مثل هذه الدراسات إلى دراسة نشأة اللغة، ومن هذه الدراسات نظرية (القول بالوحي والإلهام الإلهي) في نشأة اللغة([70]).

وقد أطلق أبو الحسين احمد بن فارس([71]) (395 هـ) على هذه النظرية (نظرية التوقيف) في قوله: "إن لغة العرب توقيف"، ويستند بذلك إلى قوله تعالى:(وعلم آدم الاسماء كلها)[سورة البقرة، الآية: (31)] مشيراً بذلك إلى قول ابن عباس:"علمه الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة، وأرض، وسهل، وجبل، وحمل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها".

ويقرر أصحاب هذا المذهب – النظرية - قبل الإسلام أن اللغة ني أصل نشأتها مصدر إلهي هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء، ويذهب إلى هذا المذهب الفيلسوف اليوناني (هيراكليت) ([72]).

ورؤية علماء الهنود لهذه النظرية قولهم في فقدم اللغة، وهي هبة الهية وليست من صنع البشر([73])"، وني ضوء هذه النظرية، ميزت اللغة الكائن البشري – الإنسان- بمنحه القدرة على الكلام، وأعطاه اللغة التي بها يتكلم، وقد أهتم الهنود بأمر اللغة، وقرروا حقيقة ترى أن "الصوت نتاح ذبذبة الهواء" وهم في كل ذلك لم يستطيعوا التخلص من فكرة التدخل الإلهي في اللغة([74]).

أما أنني فقد بدأت بتحليل ابن فارس لهذه النظرية، لأنه نابع من فكر عربي، في بيئة عربية، رجل متشدد متعصب للعربية والعرب، وقد أورد معاصره ابن جنى (392هـ)، أن أبا علي الفارسي (377هـ) هو أيضاً من القائلين بهذه النظرية، محتجاً بالآية القرآنية التي احتج ابن فارس بها.

ومهما يكن من أمر هذه النظرية فإن أصحابها قد استدلوا بأدلة نقلية من كتب مقدسة ، اعتمد فيها العلماء العرب المسلمون على قوله تعالى الذي ذكرناه، أما غير المسلمين فيستدلون بما ورد في الكتاب المقدس من قوله: (والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول، وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان، فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول" ويعلق وافي([75]) على هذا الدليل بقوله:"تكاد يكون عليهم" لا لهم.

والذي أراه أن المستدلين بهذه الحجة لم يفهموا النص بدقة إن صح ذلك دليلاً من أدلتهم، فالنص واضح تماماً، ولا يمت إلى هذه النظرية من قريب ولا من بعيد، بل يمكن أن يكون دليلاً على نظرية أخرى.

وجدير بالإشارة إلى أن ابن جني قد نقل تعليق شيخه أبي علي الفارسي على تفسير قوله تعالى السابق بقوله([76]) قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم أن واضع عليها، وأن المعنى من عند الله سبحانه لا محالة" فهو لم يستقر على ذلك، بل قد أشار إلى رأى أبي الحسن – الأخفش- (315هـ) من أنها (تواضع منه([77])).

والذي يهمني من أمر هذه النظرية أن علاقة الصوت بالمعنى في ضوئها علاقة توقيفية، أي أن الألفاظ الموضوعة بإزائها المعاني من الله سبحانه وتعالى، بمعنى أن المعنى الموضوع الأساس للفظ لم يأت من طريق المواضعة والاصطلاح، ولكن هو من طريق الإله([78]).

أما كيف تؤدي اللغة أثرها في المجتمع وهي توقيف؟ فقد رد ابن فارس هذه القضية، بأن اللغة كانت تنزل على الأنبياء بين حين وآخر، أي كلما استجدت ألفاظ لتواكب حاجات البشر اليومية، وتلبي متطلبات الحضارة، بقى مدافعاً عن نظريته في التوقيف التي قال بها وتبناها في كل فقرة من فقرات كتابه([79]).

الصفحات