قراءة كتاب انهيار الإمبراطورية الأمريكية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
انهيار الإمبراطورية الأمريكية

انهيار الإمبراطورية الأمريكية

كتاب " انهيار الإمبراطورية الأمريكية " ، تأليف د. عبد علي كاظم المعموري ، والذي صدر عن

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 8

المبحث الثالث:حلم العصر الأمريكي

إن صناعة المستقبل صناعة بشرية بامتياز وضرورة لازمة وحتمية، إذ يقول أوين بابيك في هذا الصدد أن من يعجز عن التنبؤ بالمستقبل غير جدير بالعيش فيه، وصناعة المستقبل لا تتطلب وجود آلية وتخطيط استراتيجي كفوءة فقط، وإنما قبل ذلك لابد من توفر رؤى مستقبلية بالقابلية والانسيابية الإستراتيجية، التي تؤدي إلى اغتنام أكبر عدد من الفرص الرابحة، وإجهاض اكبر عدد ممكن من التهديدات، أو تحويلها إلى فرص مدعمة أيضاً بجملة من المبادئ الإستراتيجية (إن غداً سيأتي دائما بشكل مختلف)(46).

في حقيقة الأمر فإن الولايات المتحدة وحتى تسعينيات القرن التاسع عشر، كانت منهمكة في البناء الاقتصادي والسياسي والعسكري، ولكن يمكن القول أنه ابتداءً من عام 1890 تقريباً بلغت درجة كبيرة من القوة الاقتصادية تؤهلها لتبوء موقعها بين الدول الكبرى، إذ شهدت مابين1860 -1910، ثورة زراعية ضخمة كان من سماتها الاستخدام المكثف للمكننة الزراعية، والذي نتج عنه زيادة الإنتاج الزراعي بأكثر مما تتطلبه السوق المحلية الأمريكية(47)، وهو ما يسر العمل عن البحث عن أسواق لزيادة الصادرات الزراعية المتنامية، لهذا أصبح لازماً أن يتم التفكير استراتيجياً بفتح الأسواق الخارجية لتصريف الفائض الاقتصادي، الذي لم يعد ممكناً استيعابه محلياً.

والحال ذاته ينطبق على القطاع الصناعي الذي شهد ثورة صناعية عظمى امتازت بضخامة الإنتاج، والذي كان يسنده كبر حجم السوق المحلية، هذا فرض جدياً البحث عن الأسواق وبخاصة القريبة من الولايات المتحدة، والتي لا يمكن أن تنافسها فيها الصناعات الأوربية، وكذلك أسواق الشرق الأقصى وخاصة الصين، ونعتقد أن تطلع أمريكا نحو العزلة عن العالم ومحاولة تحجيم الوجود الأوربي في أمريكا اللاتينية، كان مرتبط بالتطلع نحو ضمان أسواقها من دون منافسة، لاسيما وأن الولايات المتحدة تعد أمريكا اللاتينية حديقتها الخلفية.

هذه الأهمية في ضمان الأسواق والبحث الدائم عنها تظل هاجساً للرأسمالية في أي طور من أطوارها، وهو ما حدا برئيس غرفة تجارة نيويورك سيسل رودس عام 1922 من القول (نحن لا نستطيع أن نتنازل عن أنج واحد من مساحة العالم الذي يستطيع أن يقدم سوقاً حرة،مفتوحة لصناعات أبناء وطننا)(48).

لقد نمت الولايات المتحدة بطبائع الجغرافيا والتاريخ والثقافة كياناً متحركاً لا يطيق التوقف عند فاصل يحد من تقدمه وانتشاره وتوسعه، لأن التوقف لا يكون إلا استسلاماً لحصار ما أو تمهيداً للتراجع، حتى أنها ومنذ نشأتها الأولى وعت ضرورة ملئ الساحة من خط الماء الأطلسي إلى خط الماء الباسيفيكي، وقبلت بضريبة الحرب الأهلية من اجل بناء دولة موحدة وقوية (4).

وما أن انتهت الحرب الأهلية فيها حتى عقدت العزم للتطلع إلى كل من أسيا وأوربا، تحدوها رغبة جامحة مركبة لفتح الأسواق والاستئثار بالموارد الطبيعية، على كل ما عدته فراغاً يستحق الاكتشاف والغزو، ولما كانت أسيا أفقاً متاحاً يمكن الولوج إليه بيسر من خلال المحيط الهادي، ولا يتطلب تحضيرات واسعة ولهذا أعطتها الأولية، إما أوربا فأنها لم تعد لها العدة الكافية واللازمة، ولم تكن تحظى بأولوية في تصنيفها كمنطقة داخل الفراغ الواجب دخوله (49).

في عام 1989 ألقى السناتور ألبرت بيفردج خلال مناقشة الكونغرس الأمريكي، وكان بعنوان (زحف العلم - The march of flag)، يشير فيه إلى (عليكم أن تتذكروا اليوم ما فعله آباؤنا، علينا أن ننصب خيمة الحرية ابعد في الغرب وأبعد في الجنوب، إن المسألة ليست أمريكا ولكنها مسألة زمن يدعونا إلى الزحف تحت العلم، حتى ننشر الحرية ونحمل البركة إلى الجميع علينا أن نقول لأعداء التوسع الأمريكي، إن الحرية تليق فقط بالشعوب التي تستطيع حكم نفسها، وإما التي لا تستطيع فأن واجبنا المقدس أمام الله يدعونا لقيادتها إلى الأنموذج الأمريكي في الحياة، لأنه أنموذج الحق مع الشرف، فنحن لا نستطيع التهرب من المسؤولية التي وضعتها علينا العناية الإلهية لإنقاذ الحرية والحضارة، ولذلك فأن العَلم الأمريكي يجب أن يكون رمزاً لكل الجنس البشري) (50).

إن الانبهار الذاتي للشخصية الأمريكية يجد انعكاسه في الأدب السياسي، إذ نلحظ حب التطلع نحو التفخيم، فقد جاهر الكتاب والباحثين بكون الولايات المتحدة إمبراطورية بحق، ويدعونها إلى أن تتصرف على هذا الأساس بالاستفادة من تفوقها الكاسح، بل يذهب آخرين إلى المغالاة في ذلك عندما يشيروا على الأمريكيين يجب أن لا ينسوا أن أمتهم هي الأفضل من بين كل الأمم كنموذج للمستقبل.

مما تقدم نلحظ أن موضوعة الحلم الإمبراطوري لم تكن نتاجاً تصادفياً أو وليد مرحلة الحرب الباردة، بل جاءت مترافقة مع ولادة الولايات المتحدة الأمريكية في رؤية أريد منها أن تكون وريثاُ شرعياً لكل الإمبراطوريات السابقة، التي بانت علائم تأكلها وأفول نجمها.

هذا الخيار لم يكن خياراً فردياً، بل أن الكونغرس الأمريكي آنذاك عده الخيار الواجب اعتماده، وإرفاقه بالتشريع اللازم للقضاء على كل من يحاول الوقوف بوجه هذا الخيار أو الحلم الأمريكي.

هذا الحلم/ المشروع الذي نشأ مع ولادة الولايات المتحدة، اخذ يقضم شيئاً فشيئاً ما تبقى من الإمبراطوريات الهرمة - اسبانيا والبرتغال - والحلول محلها، بعدما أضحى وجود هذه الإمبراطوريات تطفلاً استعمارياً همجياً، على حد تعبير تيودور روزفلت، وتعد العدة بانتظار الفرصة السانحة لقضم الإمبراطوريات الأوربية الأخرى - فرنسا وبريطانيا - فيما بعد، وهذا تأكد عندما خرجت هاتين الإمبراطوريتين منهكتين بفعل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم تتوانى الولايات المتحدة مطلقاً لملئ ما سمي بالفراغ الاستراتيجي بعدهما.

لقد مثلت العزلة الفرصة السانحة للمضي بثبات أكثر، فتطورت الإستراتيجية من سياسة العزلة إلى خيار المشاركة في صياغة النظام الدولي بتأثير نظرية ملئ الفراغ (51).

كل صناع القرار وواضعي الإستراتيجية الأمريكية ظلوا يرون في ذلك الحلم الإمبراطوري، هو الثابت الأهم خلال كل المراحل التاريخية، بحيث تم تحويل هذا الحلم إلى طموح ومن ثم إلى هدف تم ترسيخ الإيمان به والعمل على تحقيقه.

إن نبذ العزلة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية واختيارها أن تكون الفاعل الأول عالمياً تطلب صناعة الفرصة، فبدلاً من انتظار اللحظة التاريخية التي تكون فيها الفرصة وسط بيئة دولية وعلاقات قوة قد تسمح باغتنامها، اختارت الولايات المتحدة أن تصنع اللحظة التاريخية وتتربع على رأس هرم القوة إلى جانب الاتحاد السوفيتي أولاً، ومن ثم منفردة بعد ذلك.

لهذا اتسعت قوة الولايات المتحدة الأمريكية حول العالم اتساعاً كبيراً، فبينما كانت الدول الاستعمارية القديمة، التي هزمت أو أضعفت في الحرب تحمل عصاها وترحل، كان التغلغل الأمريكي الاقتصادي والعسكري قد بدأ يشق طريقة محلها بسرعة في أسيا وغيرها من مناطق الاستعمار القديم، وقد جرى توسيع هذه القوة وترسيخها تحت شعارات مختلفة متناسبة مع كل حالة، إلا أن اغلبها جرى تحت شعار مواجهة/ صد الشيوعية (52).

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى انتهاء الحرب الباردة، ظلت الولايات المتحدة تبحث عن فرصة لفرض أنموذجها الحضاري على العالم، وظلوا ينازعون أنفسهم طيلة أربعة عقود ويزيد، حتى جاءت لهم التغيرات الدولية بفرصة لا تعوض وصفها بعضهم بأنها (انتصار بلا حرب) (53).

أعرب جيمس تراسلو آدامز عام1931، عن الحلم الأمريكي بالقدرة على تحقيق حياة أفضل وأكثر ثراء وسعادة، بينما يرى هنتر تومسون في كتابه الخوف والكراهية في لاس فيجاس: رحلة بربرية إلى قلب الحلم الأمريكي، الرؤية القاتمة للبحث عن هذا الحلم منذ أوائل السبعينات في عهد ريتشارد نيكسون، على خلفية شيوع العنف والجشع والجهل والاغتراب الشخصي المستوطن في المجتمع الأمريكي.

أمريكا طوال القرن الماضي كانت إمبراطورية بشكل أو بأخر، أعضاءها أوربا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا، فالقوة الأمريكية هي التي يسرت لها أن تكون قوة إمبراطورية شئنا أم أبينا على حد تعبير لوموند الفرنسية، وهو ما أشار إليه نعوم تشومسكي في كتابه الهيمنة أم البقاء: السعي إلى السيطرة على العالم، من أن الولايات المتحدة تسعى منذ أكثر من نصف قرن وراء استراتيجيه امبريالية كبرى هدفها إخضاع العالم لسيطرتها التامة مهما بلغت التكاليف وعلت المخاطر (54)، وصولاً إلى فرض الشكل الإمبراطوري من خلال الحروب وبأي ثمن، تحت سطوة ما يسمى ببيع سلعة الديمقراطية على بلدان العالم.

اعتمدت أمريكا ما يسمى بسياسة العصا الغليظة (Policy of Big Stick) تطويراً لمبدأ مونرو الصادر عام 1823 (55)، والذي مفاده أن الولايات المتحدة تحذر الدول الأوربية والصين والدول الأسيوية الأخرى، من مغبة التدخل بأي شكل من الأشكال في أمريكا اللاتينية، وقد تم دعم هذا المبدأ بشعارات ذات محتوى قومي أمريكي لإثارة شعور الانتماء بين أبناء القارة الواحدة (أمريكا للأمريكيين) و (ارفعوا أيديكم عن العالم الأمريكي) (56).

الصفحات