يُعدّ كتاب "هكذا تكلم زرادشت" أ
قراءة كتاب هكذا تكلم زرادشت - للمجتمع لا للفرد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
ففكرة (الإنسان المتفوق) التي تشكل محور الكتاب هي فكرة إنسانية تؤسس للرقي بالإنسان: فكرياً بالعلم، وجسدياً بالرياضة، وروحياً بالإيمان الحق، الذي يصنع أرواحاً قوية لا نفوساً خانعة، وهذا ما تفاوت قراء نيتشه في فهمه، فصنفه الغالبية في خانة الإلحاد ومعاداة الإيمان. لكن المرء يعذرهم إن اختلفوا في الفهم، لأن لغة نيتشه صعبة، هذا إضافة لجو سحري غامض يسود الكتاب من أوله لآخره. وبالطبع لا يمكن أن ننفي وجودية نيتشه أبداً، لكنه يستحق أن يقرأ بعمق أكثر، المهم أن هذه الفكرة الإنسانية القائلة بتطوير الإنسان والرقي به حوّلها هتلر والنازيون لنزوع إجرامي رهيب يفترض التفوق حكراً على عرق واحد بل على أفراد فقط في هذا العرق متمتعين بصفات جسمانية ومعدلات ذكاء معينة. فالمتفوق عند النازيين هم هؤلاء فقط، فهم من يسود ويستعبد باقي البشرية.
ولقد أعلى نيتشه من شأن الإنسان رافضاً الذلة والانكسار والمسكنة، ممجداً القوة، موقناً أنها لا تأتي إلا بالخير، هذا إن تجاوزنا الفهم الذي نعرفه جميعاً للخير والشر.
ما سبق يفرض تساؤلات على الإنسان المؤمن، المقدس للذات الإلهية، والذي يحترم، في ذات الوقت، مفكراً من وزن نيتشه:
هل كان لنشأة نيتشه في بيئة متطرفة في تدينها، وذات نزعة تطهرية عنيفة، تقسر المرء على الشعور بالذنب والإثم، لمجرد وجوده وإحساسه بذاته، أثر في نزوعه الشديد للانعتاق من كل القيود إلا إرادة القوة؟
ثم، ألا يبعث قدرُ الألم والمرض والمعاناة في نفوس الكثير من البشر نزعات الحنق والسخط والنقمة على كل شيء؟
وختاماً: هل كان نيتشه فعلاً حاملاً فكرياً للنازية أم أن أفكاره استغلت وأسيء تفسيرها كما هو شأن معظم أفكاره؟
يصنف الباحثون الفلسفة الوجودية إلى نزعتين: نزعة تضاد الدين وفكرة الإله بقوة، وهي النزعة التي يمثلها بشكل أساسي نيتشه وبول سارتر، أما وجودية فيلسوف أقل شهرة هو ياسبيرز فهي وجودية تحاول التوفيق بين اللادينية والإيمان، فهي وجودية لا دينية لكن ليست ملحدة.
ويختلف نيتشه عن معظم الفلاسفة بالارتباط الوثيق بين فلسفته وتجربة حياته، فهو ليس ذلك المتأمل النائي بنفسه عن معمعة الوجود، وهو لا يكتب كما يقال (من فوق الأسطح) إنه فعلاً يكتب بمعاناته، يكتب بدمه.
صحيح أن نيتشه ولد لقس بروتستانتي متدين. لكنه سرعان ما أعلن وهو في السابعة عشرة من عمره عن شعوره بنشوة عارمة ورؤى تشاؤمية، مع ميل عارم نحو العواصف الهوجاء والغيوم المدماة والسقوط في الهاوية والذهول المسكر، مثلما أعلن وقوفه ضد القيم التربوية والمدرسية وضد العلم والأخلاق ونظام التملك البرجوازي الذي ساد في زمن بسمارك والنظام العلمي الذي يسمم الحياة. كما وقف ضد عبودية الأخلاق بعامة والأخلاق المسيحية بخاصة، وتحول ابن القس المتدين إلى متمرد وكافر. وليس غريباً أن تصدر من نيتشه مثل هذه الأوهام الشيطانية، فقد عانى بنفسه منذ سنوات الطفولة من ضغوط الوساوس والأوهام الشيطانية، وكان يقول إن لديه شعوراً قوياً «انه من المختارين».
كان نيتشه ذكيا وجريئا في طرح أفكاره الخطيرة وكان مولعا بالموسيقى والشعر والعزف على البيانو. وقد وصف شعره العاصفي بأنه كان ينزل على الرؤوس كالمطارق. وربما كانت فجيعته بموت والده وهو في الخامسة من عمره، بسبب مرض عصبي أيضاً، قد أثرت في نفسه بعمق حيث قال: «ومع أنني ما زلت طفلا صغيرا وبدون أية خبرة أو تجربة كافية، غير أنني أدركت تماماً معنى الموت.. ومع أنني نحيت جانبا فكرة الموت عن أبي الحبيب، غير أنها هاجمتني مرارا وأخذت أبكي بمرارة» وبعد شهور معدودة توفي أخوه الوحيد الذي «كان مليئاً بالحركة والحياة».
درس نيتشه اللغات والآداب القديمة وبخاصة الإغريقية واللاتينية. وخلال تعليمه العالي أكمل الخدمة العسكرية، ثم أنهى دراسته العالية ليحصل على الدكتوراه ويصبح مدرسا للفلسفة في جامعة بازل.
عجيب حقا أن ينحدر نيتشه الذي يمثل الشخصية الألمانية المتعالية لا عن الأصول الألمانية ولكن عن الأصول السلافية البولندية.
عائلة نيتشه كانت أسرة أرستقراطية فرت من بولندا بسبب الاضطهاد الذي مورس ضد البروتستانت واستقرت في بروسيا في شمال شرق ألمانيا، كان نيتشه جادا في طفولته واشتهر بالتواضع أيضا وحينما التحق بالجامعة تأثر تأثرا كبيرا بالفيلسوف شوبنهور وهو فيلسوف التشاؤم بلا منازع ويدعو إلى هدم كل شيء وإعادة بنائه من جديد وكان يرى أن الإنسان ليس حرا وأن الظروف تفرض على الإنسان ضروريات عليه أن يقوم بها إلى أن يأتي الموت.
التحق نيتشه بالحياة العسكرية وعشق صورة الجندي وخصال العسكرية من صبر ونظام وطاعة.
ألف نيتشه أول كتاب له واسمه (نشأة المأساة من روح الموسيقى) وأهداه لصديقه الموسيقار العالمي فاغنر، ثم كتابه الثاني (ملاحظات غير مناسبة) والذي هاجم فيه كل فلاسفة القرن التاسع عشر وخاصة هيجل، ونشر نيتشه كتابه (أمور إنسانية) عام 1878، والذي هاجم فيه بشدة صديقه الموسيقار فاغنر وكانت تلك نهاية صداقتهما. وأخذ الناشرون يحجمون عن نشر كتب نيتشه وأخذ هو ينشرها بنفسه.
في عام 1879 أصيب نيتشه بمرض خطير وأوشك على الموت وطلب من شقيقته إليزابيث قائلا: (إذا مت لا يقف حول جثماني إلا الأصدقاء ولا يزورني إنسان فضولي ولا يتلو قسيس الأباطيل والأكاذيب فوق جسدي في وقت لا أستطيع فيه أن أدافع عن نفسي فأنا أريد أن أذهب إلى قبري وثنيا شريفا).
لكنه شفي وطاف أوروبا بعد ذلك وقد نشر بين 1881و 1888 مجموعة من أهم أعماله مثل فجر الضمير والحكمة والفرحة وهكذا تكلم زرادشت، والأخير من أهم كتبه على الإطلاق بل انه قد يكون واحدا من أسباب الحروب التي عاشتها أوروبا في القرن العشرين.
في كتاب زرادشت يتحدث الفيلسوف الفارسي القديم بلسان نيتشه فيقدم أفكاره عن فلسفتي إرادة القوة والأيبرمينش أو الإنسان الأعلى أو المتفوق على بقية الإنسانية. وبينما صورت تعاليم زرادشت العالم ميدانا للصراع بين الخير والشر وجعلت الغلبة في النهاية للخير دائما، فإن نيتشه قال إن من الواجب لتفوق الإنسانية أن ننكر فكرتي الخير و الشر.
ولقد أرجع نيتشه أخلاق أوروبا إلى آسيا وقال إنها جاءت عن طريق اليهودية والمسيحية وإنها حلت محل الأخلاق الأوروبية القديمة التي كانت تهتم بالشجاعة والقوة.
ويقول نيتشه إن اليهود هم أول من قادوا ثورات العبيد على السادة ليجعلوا قيم أخلاق العبيد تحل محل قيم السادة، والمسيحية عند نيتشه صورة من صور اليهودية.
أخذت فلسفة نيتشه تتحول شيئا فشيئا إلى إرادة القوة والسيطرة فهاجم المسيح والمسيحية واعتبر نفسه أعظم من المسيح وأن كتبه أفضل من الكتاب المقدس، وقد صاحبه في ذلك تدهور تدريجي في صحته الجسدية والعقلية حتى إذا ما بلغ السادسة والثلاثين من عمره كتب: (إن المرض هو أول من هداني سواء السبيل)..(في كل أطوار حياتي كانت شدة الألم عندي هائلة لا تطاق).
ومع ازدياد الضعف في جسده ازدادت فلسفته في القوة تطرفا (إن القوة هي الحق الوحيد) وانحاز تماما للأقوياء وحاز نابليون إعجابه.
نشر دارون مؤلفاته بعد أن قام برحلاته الاستكشافية حول العالم في حياة نيتشه ومن ضمن تلك المؤلفات كتاب «أصل الأنواع» لكن إحقاقا للحق فلقد أساء نيتشه فهم دارون فدارون كان صريحا في قوله إن تطور الكائنات يقوم على التعاون والتنازع بل إن التعاون أكثر من التنازع.
وقد ذاعت شهرة نيتشه في أوروبا قبل أعوام قليلة من وفاته، فلما توفي قام تلاميذه بنشر أفكاره التي تلقفها النازيون وحوروها لتتلاءم مع أفكارهم بالقول إن المقصود بالأيبرمينش أو الأكثر إنسانية وعلوا هو الجنس الألماني الآري، مع أن نيتشه لم يذكر كلمة ألماني في أي من مؤلفاته.