You are here

قراءة كتاب اللغة العربية في مرآة الآخر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
اللغة العربية في مرآة الآخر

اللغة العربية في مرآة الآخر

استحوذت اللسانيات الغربية عامة واللسانيات الأمريكية خاصة على الدراسات اللغوية العربية، ولا سيّما بعد ظهور النظرية التوليدية التحويلية، وأصبح تطبيق المقولات النظرية المستفادة من تلك اللسانيات بمدارسها المختلفة المتعاقبة -ولا يزال- تياراً سائداً وعنواناً رئيس

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
جدل الموضوع والمنهج
 
وحسبي أن أتوقّف هنا إلى مَلْحَظ واحد يتعلّق بموضوع هذا الكتاب· وهو ملحظ يتمثل في جدل الموضوع والمنهج وجدل المنهج والنظرية· ولكنه محتاج إلى فضل بيان·
 
تكلم العرب، بلغتهم، كما تكلّم غيرهم قبل أن يضع نحاة العربية قواعدها، وقد وضع نحاة العربية قواعدها قبل أن يستخرج أهلُ النظرِ الأصولَ التي اتبعها نحاة العربية في وضع القواعد· فما هي العلاقة بين أداءِ اللغة ووصفِها؟ وما هي العلاقة بين وصفِ اللغة ونظريةِ وصفها؟ كيف ينبثق الوصف من الأداء؟ وكيف تُسْتَخْرَج النظرية من الوصف؟
 
هل كان پانيني - وهو يضع نَحْوَ السنسكريتية - يَعي أن عَمَلَه يُمَثّل قطعة من النحو التحويلي كما يرى تشومسكي؟ وهل كان الكوفيون في اشتغالهم بوضع النحو يعلمون أنهم يتخذون منهجا وصفيا أو قريبا من ذلك كما يرى مهدي المخزومي؟
 
إن الناطق باللغة سليقةً ويَصْدُر عن برنامجها المتشكل بالفطرة المركّبة في العقل الإنساني - في رأي التحويليين - لا يستطيع ولا نستطيع أن نعوّل على وعيه فيما يصدر عنه (بلا وعيه)· بل إن عَمَلَنا الآن، في ضوء المناهج المتعارفة لوصف اللغة وتفسيرها، ما يزال بعيدا عن استشفاف ذلك الوعي أو مُماهاتِه· ولعلّه لهذا السبب، بين أسباب أخرى، نجد انفصاما يعقب (نفورا) لدى المتعلمين مِنْ تدخّل أهل القواعد في تعليمهم إياها بمصطلحاتهم التي يَصِفونها بها ؛ حتى غدا النحو العلمي والنحو التعليمي قسيمين متفارقين·
 
ونقدّر، من وجه آخر، أن الظاهرة الإنسانية كاللغة تُنْبِئ بتشكيلها الذاتي من جهة وبما يعتريه في صيرورة التغيّر أو أحوال الاختلاف (كما في نشوء ظاهرة اللحن في العربية)، تنبئ عن بعض نواميسها (وبضدها تتمايز الأشياء)، ويصبح الخروج عن النمط المعتاد حافزا للبحث عن حقيقة النمط الذي كان يجري على الألسنة عادةً يغطّي عليها الإلْف، ومُعْطىً اجتماعيا مسلّما يتخذ مسالكه على ألسنة الناس عفوا وتلقائيا· وإذن لعلّ ذلك التغيّر أو اللحن أو الاختلاف كان مفتاحَ الكشف الأول الذي أمكن الواضِعَ الأول لقواعد اللغة وَصِفَتِها أَنْ يُحَوِّل الأداء إلى الوصف
 
ولعله يستقيم لنا أن نتجاوز هذا السؤال المعرفيّ ما دام تاريخ الدرس اللغوي قد شهد نماذج شتىّ للغاتٍ مدونة وُصِفَتْ على أنحاء منهجية نسبية معينة تمثل أصولا نظرية أو أصولَ نظريةٍ·
 
ونتوقف إلى ما جددته اللسانيات الحديثة من مناهج في وصف اللغة الإنسانية وتفسيرها· وقد أصبحت هذه المناهج أدلة جاهزة هادية إلى مقاربة اللغة (إذا أُرِيدَ وَصْفُ لغةٍ لم توضع لها قواعد ولم تُجَرَّدْ لها صفة من قبل)، بل أصبحت هذه المناهج أدلة صالحة لتفسير إضافي أو لإعادة وصف لغاتٍ وُصِفَتْ قَبْلاً بوسائل وأصول مختلفة·
 
ولعل عنوانا مثل : إعادة وصف اللغة العربية لسانيا أن يكون مثالا كافيا دالا على مقالنا في هذا المقام·
 
وقد احتذى الجانب العربي النماذج اللسانية التي طورها الآخر فأعاد قراءة كثير من وجوه الظاهرة اللغوية العربية في ضوئها، بل أَنْبَهَ على أصول وَجَـد نحاةَ العربية يجسّدونها في أعمالهم وإن لم يصرحوا بها· ولا بأس أن نستبق، في هذا المقام، ملاحظة لافتة تدل علـى مشترك في النظر اللساني على هذا الصعيد، من وجهين متقابلين : عربيّ وغير عربيّ· تَزَوَّدَ العربي بِعُدّة منهجية (واعية)، فأعاد قراءة الظاهرة اللغوية العربية، وأَنْبَهَ على أصول في أعمال علمائها كانت مندغمة في تلك الأعمال باطراد دون أن يعبأوا بتجريدها، وطوّرت اللسانيات الحديثة مناهجها باطراد فهيأ لها ذلك وعيا جعلها قادرة على أن تقرأ أعمال النحاة العرب وتنتصف لها وترى فيها أصولا لم تكن لتراها قبل أن يتهيأ لها ذلك الوعي، كما يقرر جوناثان أوينز·
 
وهكذا تكون العلاقة بين الموضوع وهو اللغة والمنهج وهو الرؤية النظرية لتقعيدِها أو وَصْفِها وتفسيرِها علاقة متبادلة· وهي علاقة تتخذ على مستوى أعلى من التجريد مسارين متلاقيين في منتهى التحليل· يرى أندريه مارتينيه الوظيفي الفرنسي، مثلا، أن يبدأ الدرس اللساني بدرس اللغات الإنسانية في ذواتها من جهة ما هي مَعْنِيّة بالاتصال، ويكون تجريد الكليات اللسانية المعرفية - وهي مطلب إنساني منشود بإلحاح - في المقام الثاني، من بعد·
 
ونرى لسانيين مرموقين في أمريكا يُنْسَبون إلى نظريات لسانية أو يتخصصون في أحد وجوه النظرية اللسانية، ثم تكون لغات مخصوصة محورا مركزيا لدراساتهم التطبيقية مثل دوايت بولنجر من علماء الدلالة (Dwight Bolinger 1 9 0 7-1 9 6 2)، إذ تتخذ الإسبانية موقعا محوريا في أعماله· وموريس هاله خِدن تشومسكي في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا (MIT) الشهير وعملهما المشترك (نمط الصوت في الإنجليزية) وتلميذ رومان ياكبسون، إذ إنه يُعَدّ أبا النظرية الصوتية والفونولوجية ولكن جُلّ دراساته في هذا الحقل تتناول اللغات الهندية الأوروبية أو الإنجليزية أو الروسية·

Pages