أنت هنا

مقاطع من رواية "دار الغواية"

مقاطع من رواية "دار الغواية"
(1)

تقبض هي على كفك بقوة أكبر وأنت لا تحاول أن تتملص من أصابعها الناعمة، تستسلم لها تماما وعيناك لا تكفان عن التجول في الشارع وضوء النهار الدافئ يغمر وجهك ويشعرك بالسعادة، ورغم ذلك تطلب منك أمك أن تعتمر القبعة القبيحة التي تضايق رأسك وتترك علامة حمراء على جبهتك فتوافق غير متذمر،  تنظر إلى البنات والأولاد بملابسهم الجديدة وهم يلعبون بالدراجات المُزينة والمسدسات والعرائس، تبتسم لك طفلة في مثل عمرك تقريبا؛ فتشيح بوجهك بعيدا عنها حتى لا تراك أمك فتغضب منك، تظل أمك تسحبك وتمشي بك في خطوات مسرعة توجع قدميك الصغيرتين حتى تصلا إلى الشارع الرئيسي.تستوقف أمك تاكسيا وتقول لسائقه وهي تنحني:
( جامع مصطفي محمود ).
فيهز السائق رأسه بالنفي، وينطلق بسيارته في سرعة جنونية، تزفر هي بضيق وتنظر لك فتبتسم لها، تقبّل رأسك وتربت عليها. تشير لتاكسي آخر فيقف أمامكما، تقول له:
( المهندسين، مسجد مصطفي محمود ).
يوافق، يخرج من سيارته ليفتح لأمك الباب الخلفي الذي لم تقدر هي على فتحه، تجلس بجوار الشباك وتنظر إلى الشوارع الجميلة الواسعة، يبدو لك العالم اليوم واسعا وجميلا وسعيدا. تردد مع الأصوات التي تعلو شيئا فشيئا:
( نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده ).
لا تعرف معنى تلك الكلمات ولكنك تهز رأسك للأعلى والأسفل ولا تكف عن ترديدها حتى تطلب منك أمك أن تنزل من السيارة. تنبهر من هذا العدد الهائل من الناس الواقفين أمام المسجد الكبير.  تنتابك فرحة عارمة ولا تفارق الابتسامة شفتيك.
تدخل مع أمك دورة مياه الحريم، تستغرب وتخاف من النساء اللاتي يخفين وجوههن، ترتعب حين تقترب منك إحداهن فتلازم أمك وتظل متشبثا بملابسها.
تفعل مثلما تفعل هي، تغسل وجهك ويدك وفمك وتستنشق الماء فتشعر به يدغدغ أنفك من الداخل وتمسح على رأسك وتغسل قدميك أيضا، تمسح هي وجهك بمنشفة صغيرة كانت موجودة في حقيبة يديها حتى لا تصاب بالبرد.
تخرجان من دورة المياه، وتصعدان سلالم حديدية ضيقة.في الطابق العلوي يوجد نساء كثيرات وأطفال أصغر منك في السن والحجم والصوت يعلو ويصدح في كل مكان:
( الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله.....).
تجلس بين ساقيها وتلقي برأسك على صدرها. يقول الشيخ بصوت عالٍ:
( استقيموا يرحمكم الله، القدم بالقدم والساق بالساق، لا تتركوا فرجة للشيطان ).
تقف النساء متلاصقات في صف طويل، امرأة غريبة تقف مكانك بجوار أمك وتمنعك من الوقوف معها، تقول لك المرأة الغريبة:
( الأطفال في الصف الأخير ).
تنظر إلى أمك بتوجس وتحثها على التدخل، فتقول لك:
( روح أقف مع الأولاد ).
تفرح لأنك ستقف مع الأولاد وتحزن لأنك ستفارق أمك، وتتمني لو كانت أمك طفلة صغيرة حتى تتمكن من اللعب معك في المدرسة والوقوف بجوارك الآن.
تنزوي في آخر صف، ترقب أمك من بعيد وتفعل مثلها، تسجد وتركع وعيناك معلقتان بها، تقول لك البنت الصغيرة التي وقفت أمامك فجأة لتحول بينك وبين أمك:
( انت مث بتعلف تثلي ).
لا ترد عليها؛ فتواصل هي:

( انت عبيط ؟!).
تفكر في أن تنادي على أمك؛ فتضيف البنت:
( يا عبيط يا ابن العبيط ).
وتجذبك من شعرك وتنهش أظافرها الطويلة في لحم وجهك، تشعر بنار محرقة في وجهك وألم فظيع يجتاح فروة رأسك فتبكي بصوت عالٍ وتنتحب وتنادي على أمك بصوت مبحوح.تركض الشيطانة الصغيرة بعيدا وتختفي، تترك أمك الصلاة، تهرول صوبك، تقبض على ذقنك وتحرك رأسك جهة اليمين وجهة الشمال، تسألك عما حصل؛ فتحكي لها عن البنت الصغيرة وما فعلته بك، تمسح دموعك المنسابة على وجنتيك ثم تحملك على كتفها، تلتقط هي حذاءك من على الرف الخشبي وتغادران هذا المكان دون أن تنتعل حذاءك.

(2)

قال لي الطبيب النفساني ذات مساء: ( أنت معرض للاكتئاب الحاد في أي وقت..حتى في لحظات الفرح الشديد.. أحيانا أحس بأنك مريض يحب مرضه وحضورك هنا مجرد راحة لضميرك أو استجابة لشخص يهمك أن ترضيه..أمثالك يموتون ميتة غريبة..ميتة تتحدث عنها الصحف كما تتحدث الأساطير عن موت الأبطال..موعدك انتهى..لا تنس ميعادك في الأسبوع المقبل ).
أعشق الوحدة والألم والغرف المغلقة، متعة عارمة تنتابني حين أجرح نفسي، أو يصيبني المرض، أو عندما يدهمني صداع يفتك برأسي، أو يصعقني تيار كهربائي.
أدخل الحمام، أفتح المياه الخاص بحوض الاستحمام، درجة حرارة المياه مرتفعة، أدير مؤشر السخان نحو الدرجات الباردة، أخفف إضاءة الشقة، الإضاءة الخافتة تريح أعصابي.أحضر ألبوم الصور من غرفة النوم، وأعود إلى الصالة، أجلس على الأرض وأفترش الصور والذكريات والجروح التي لن تندمل، أتحسس وجه سعاد المبتسمة وهي تلوح لي بيمناها وتحجب أشعة الشمس المحرقة بالأخرى، يدي ثقيلة ومرتجفة، أرفع كفي عن الصورة بالكاد، لا تزال الذكري القديمة معلقة في مخيلتي كأنها حفرت بأزميل في عقلي ووجداني. لا أخجل أبدا من أفعالي الصبيانية..مراهقة متأخرة، عقل فارغ، مرض نفسي: لا أعلم، ولا يهمني أن أعلم.  هذه صورة أخرى التقطتها لها في وسط البلد أمام سينما مترو. لا يزال الندم يعصرني ويدفعني نحو الانتحار، الفضيحة التي سببتها لـ"سعاد" بعد موتها تؤرقني وتأنبني. هل حقا ماتت "سعاد"؟! ..هل تركتني لهذا العالم البغيض أواجهه وحدي ؟!..ما هو السلاح الذي يمكن للمرء أن يواجه به الدنيا ؟!.. يخيل إليّ أن "سعاد " لم تمت، وأن العمر الطويل الذي مر بي ليس سوى كابوسا ثقيلا. كل صباح أستيقظ من نومي وأنا على يقين بأنني سأراها بجواري، ولكن المرآة الموضوعة أمام سريري تصدمني بالواقع وتعلن لي أن العمر مرّ وترك أثاره على ملامحي وشعري الخفيف. للمرة المليون ألعن نفسي وحماقتي وسوء تصرفي، كان من المفترض أن أتسم بالحكمة ورجاحة العقل حين أبلغني " أكرم " بموت "سعاد ". كان عليّ أن أتمالك نفسي وأفكر بهدوء، ولكن الصدمة كانت أقوي مني. اندفعت كالمجنون نحو بيتها، اقتحمت شقتها وفتشت كل الغرف متجاهلا نظرات الدهشة والاستنكار والتعجب، سأل الجميع: أخوالها، أعمامها وأقاربها: (مين ده ؟..وإيه علاقته بيها ؟)..حتى والدها انعقد لسانه وصمت. كانت الدموع تملأ عينيّ وتضيع الرؤية من أمامي، بصعوبة شديدة أزاحني أبوها من غرفتها، كنت أعلم أنها غرفتها، كما وصفتها لي : سرير صغير أزرق، خزانة ملابس قصيرة، وصورة عملاقة لعبد الحليم. ولكن، أين هي ؟!..أين جثمانها؟!..جثمانها! كم تؤلمني الكلمة..يا لبشاعتها وأثرها المقرف على نفسي !..تمسكت بطرف السرير كطفل يأبى أن يترك لعبته، وماذا قال الأب ؟ ..قال: ( دا خطيب بنتي، زارني في المحل من يومين وطلب أيدها )، وسأله عمها عن اسمي؛ فسكت، وسكت الجميع، وفهموا أنها كانت على علاقة بي وأن والدها يكذب، غير أنني لم أبالِ بأحد. جذبتني أمها وتنحت بي جانبا، قالت وهي تبكي: (يحيى..من فضلك، امشي..أنا مش عاوزة فضايح ). هي الوحيدة التي كانت على علم بعلاقتنا، وانصرفت.
في المساء تصرفت كمن فقد عقله، شاب في العشرين من عمره ويجرع كل هذا الكم من الخمور. تسللت إلى المقابر وقفزت من على السور الواطئ، جلست فوق قبرها واسترسلت في الحديث والبكاء، كم تمنيت في تلك اللحظة أن أنبش القبر، أن أقتلع جثتها من بين التراب، أن أحتضنها وأقبّل جبهتها. ظللت أبكي وأنتحب حتى غلبني النوم. كان حبي لها يضاهي كل مخاوفي،  تركت الكلاب تنبح والحشرات تقرصني و غرقت في سبات عميق، كم مر من الوقت ؟ ..ساعة، سويعات أم أقل ؟! ..واستيقظت إثر قدم تركلني في ظهري وصوت غليظ يصيح:( قوم يا ابن القحبه ). استيقظت مذعورا، ثلاثة وجوه قبيحة ومتشابهة أطلت عليّ من أعلي، ارتجفت واندهشت، قبض أحدهم عليّ وجذبني نحوه، كاد أن يلصق فمه في وجهي وهو يقول بلسان ثقيل: ( انت مين يا ابن الزانية ؟). رائحة كريهة فاحت من فيه؛ فتقلصت معدتي ورغبت في التقيؤ، ضربني آخر على مؤخرتي وأطلق سبة بذيئة وقال: ( فلوسك )، وصفعني الثالث على قفاي بعنف، حاولت أن أقول شيء ولكني عجزت تماما عن النطق، غلبتني معدتي فتقيأت عليهم، وكان العقاب قاسيا، ضربوني وجردوني من ملابسي وتناوبوا اغتصابي وهتك عرضي. الغريب في الأمر أنني كنت أتلذذ بتعذيبهم لي، كنت أتلذذ بالألم والمهانة والذل كأني كنت أعاقب نفسي عقابا لا يتحمله بشر، لم ينفكوا مني حتى فقدت الوعي.

المصدر : مجلة الروائي

الناشر: 
eKtab

أخر الأخبار

يسرقون الصيف من صندوق الملابس نزار أبو ناصر

يسرقون الصيف من صندوق الملابس

نزار أبو ناصر

 

صدر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021 ديوان " يسرقون الصيف من صندوق الملابس" للشاعر نزار أبو ناصر.

 منذ أعماله الأولى والشاعر نزار أبوناصر يطرق باب...

تاريخ فلسطين الحديث د. عبد الوهاب الكيالي

تاريخ فلسطين الحديث

د. عبد الوهاب الكيالي

 

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021 كتاب " تاريخ فلسطين الحديث" - تأليف د. عبد الوهاب الكيالي . هذه هي الطبعة الثانية عشرة من الدراسة الجادة والشاملة لتاريخ فلسطين...

لأول مرة كتب عربية وانجليزية رقمية في مكان واحد وفي مكتبة واحدة متاحة للجميع

تعلن شركة ektab عن توفيرها 70,000 كتاب باللغة الانجليزية لمستخدميها مجاناً عبر موقعها الالكتروني www.ektab.com

اطلقت شركة  “اي كتاب” 70,000 عنوانا باللغة الانجليزية من شتى...