أنت هنا

قراءة كتاب سابع ايام الخلق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سابع ايام الخلق

سابع ايام الخلق

سابع ايام الخلق ـ هي احدى أهم روايات عبد الخالق الركابي وهي ملحمة روائية عراقية تستحق احتفالية خاصة نساها النقد في الخارج ولم يتعرض لها احد كما لو ان الركابي متهم بإرتكاب جريمة العيش في وطن تقلصت حدوده الى مجرد كرسي متحرك يعيش ويكتب ويحلم داخله ويحاكم الازم

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8
وبسط كفه تحت ذقن امرأته التي اكتفت بأن رمقته بنظرة خاطفة، لتسارع إلى دس أصابعها البليلة بين ثدييها الهزيلين، لتستل مجموعة أوراق نقدية مطوية على بعضها، انقضّ عليها شبيب لينطلق بعدها هابطاً كل درجتين بوثبة واحدة·
 
غادر البيت متخذاً سبيله شمالاً نحو (تل الأربعين) حيث يمكث بدر فرهود الطارش على مدى ساعات النهار والليل؛ فبرغم أن (بدر) كان يملك ( بيوتاً!) وليس بيتاً واحداً في المدينة، لكنه كان يلازم القلعة القائمة فوق (تل الأربعين) باستمرار: يقود مهندسين و(أسطوات) وعمالاً، موجهاً إياهم لتنفيذ مشاريعه التي كانت لا تزال غامضة، تستدعي السخط والإدانة أكثر من الرضا والارتياح·
 
وكان بدر، قبل لقائه الحاسم ذاك (شبيب طاهر الغياث) بمدة وجيزة، قد عاد من بغداد بسمعة سيئة لا يحسد عليها؛ فعقب انتهاء (ثورة العشرين) غدا بدر محط رعاية خفية من قبل (الصاحب) الكابتن (فوكس وايت) أول مساعد حاكم عسكري لمدينة (الأسلاف)· وكان (الصاحب) قد وقع، في أثناء أحداث الثورة، في قبضة الثوار مع عشرات من (الشبانة) الأرمن والهنود من(سيك) و(كركه)· وحين أطلق سراحه أستدعي إلى بغداد ليحتل منصباً رفيعاً كان يتيح له أن يحيط (بدر) من هناك بـ(رعايته) التي أحيت من جديد ذلك الهمس عن مولد بدر، وسر زرقة عينيه مثل عيني (الصاحب)، و(معجزة) ولادته لأبيه فرهود الطارش الذي كان قد ثبت عقمه عقب زيجتين سبقتا زواجه الأخير!
 
وقد بلغت تلك (الرعاية) ذروتها حين حُمل بدر - وهو في العاشرة من عمره - إلى بغداد ليقضي خمسة عشر عاماً في أرقى مدارسها، بل وصل الأمر به أنه غدا قاب قوسين من (بعثة آثارية) وجهتها (لندن)، وقد صار ذلك الأمر حقيقة واقعة حين توجه بدر إلى البصرة على أمل أن يبحر من هناك إلى بريطانيا· بيد أن بعثته تلك لم تتخط أرصفة ميناء (المعقل)؛ فقد اختارت الدول الأوربية - كما اعتاد بدر أن يكرر بأسى - ذلك الوقت لتعلن حربها العالمية اللعينة، وائدةً بذلك طموحات بدر إلى الأبد؛ ذلك لأنه عاد إلى بغداد ليكتشف أنها لم تعد المكان الملائم له؛ فـ(فوكس وايت) كان قد رُقي إلى رتبة أعلى وأُلحق بإحدى الجبهات، فقفل بدر راجعاً إلى مدينة الأسلاف تسبقه سمعته السيئة تلك التي عززتها أكثر ثروة هائلة كان قد ورثها عن (أبيه!) المرحوم فرهود الطارش ووظيفة (فُصّلت على مقاسه تماماً)؛ فبرغم حرمانه من بعثته الآثارية تلك، لكن (جهة ما) كانت قد هيأت له منصب (مدير متحف الأسلاف)، وهو منصب وجد فيه دون شك شيئاً من العزاء - إذ إنه كان قد ورث عن عرق ما عشق الآثار! - لكنه لم يكن في واقع الأمر إلا أشبه بمنصب فخري؛ فالمتحف المنشود لم يتجاوز ركاماً من منحوتات آثارية من تماثيل وجداريات وجرار وأختام أسطوانية، وما أشبه من قطع كانت تعود إلى (الصاحب) نفسه، فضلاً عن قطع أُضيفت إليها بموجب قانون صدر آنذاك يقضي بضم قسم من الآثار المكتشفة إلى متحف المنطقة·
 
كانت تلك القطع مهملة، منذ أعوام عديدة، في صناديق مبعثرة وتحت سقائف مرتجلة، كانت قد أُقيمت كيفما اتفق، وسط القلعة التي كانت تحمل هذا الاسم تجاوزاً؛ ذلك لأن الأحداث الدامية وأعمال التخريب التي نشبت أثناء (ثورة العشرين)، فضلاً عن مرور الزمن، لم يبق من القلعة إلا على أسوارها الأربعة وبوابتها الجنوبية القائمة وسط مفتولين·
 
لكن بدر فرهود الطارش وجد في ذلك (المنصب الفخري) خير متنفّس ليبرهن لأهل المدينة أن سوء سمعته الذي يصمونه به لا يقلقه كثيراً - بل يشاع أنه في لحظات سكره وعربدته كان يتباهى بأصله (النورماندي) قائلاً إنه لا بد من شيء من (النغولة) ليقدح زناد الفن والإبداع! - كان يقول إن كل شيء زائل باستثناء الفن والإبداع!·· وكان يعقب قوله مدعياً أنه سيحيي تاريخ مدينتهم بعمل أغرب متحف في العالم· وكان يجد في أمواله الطائلة - عشرات العقارات والأسواق والبساتين والأراضي - خير معين ليبرهن على ادعائه: يحرك بوساطة أكداس النقود سلسلة رجال تتلخص مهمتهم باقتناء أي شيء يمت إلى تاريخ المدينة بصلة، وكانت النتيجة خليطاً لا يصدق: (الشرطنامة) التي جعلت من فزع الطارش وكيلاً على مشيخة البواشق عقب اغتيال الشيخ عاصي بدس السم في قهوته، و(شارات وكالة المشيخة) مع ختم الحمولة (الصغير) وختم الوكالة (الكبير)، وساعة فزع الذهبية، ومسبحته الكهرب ذات البلابل الذهبية ونارجيلته المزدانة برقائق فضية، والمدفع العثماني القديم الذي أنهى حصار الفلاحين لقلعة فزع الطارش، وأول جهاز تلغراف في المدينة، ودلال المضيف وهاونه النحاسي وفناجينه، و(طربزون) الدرويش، و(القدّوم) الذي قُتل به فزع الطارش، و(فونغراف) مانع الشيخ عاصي وكتبه وأعداد متسلسلة من مجلة (لغة العرب)، وأول سيارة شغّلها يعقوب التاجر اليهودي بين بغداد ومدينة (الأسلاف)، وسيارة (الشوفرليت) العائدة لـ(الصاحب)، و(غرامافون) مقهى (الرافدين) مع النراجيل وأوعية الشاي، والخزانة الحديدية التي حاول الثوار كسرها عقب اجتيازهم للسراي، مع مختلف البنادق والمسدسات والسيوف والخناجر والقامات، فضلاً عن أول علم عراقي رُفع على سارية السراي· ولم ينسَ حتى مخلفات الإداريين الذين تتابعوا على المدينة: كتب داود أفندي، كرسي (الصاحب) بمسنديه المخمليين··· وغيرها من أشياء لا تعد ولا تحصى·
 
آنذاك كان بدر - كما اعتاد أن يقول عن نفسه - يمر بالمرحلة الأولى من المراحل الثلاث المعهودة في تكوين المتاحف: وهي مرحلة (الجمع)· وفي انتظار الوصول إلى المرحلتين الأخريين: (الاختيار) و(العرض) كان بدر يحاول أن ينسّق ذلك الجمع العشوائي لآلاف الأشياء - التي قد تكون المتاحف آخر موضع لبعضها - وذلك بتنظيم سجلات جعلها، على النقيض من العينات المبعثرة كيفما اتفق، غاية في الدقة والتنظيم: تسجيل أسماء العيّنات، ووصفها بإيجاز، مستعملاً في التسجيل ثلاث وحدات من الأرقام: ذكر السنة التي أُضيفت فيها مجموعة من العيّنات، ورقم الإضافة المخصص للمجموعة التي حصل عليها في تلك السنة، وأخيراً رقم كل عيّنة في المجموعة المضافة، دون أن ينسى ذكر أوصاف مختصرة للعيّنات، واسم المصدر الذي حصل على العيّنات منه وعنوانه، مع ذكر طريقة الحصول عليها سواء أكانت شراءً أم إهداءً أم جمعاً·
 
وكان يعمل من كل سجل نسختين: واحدة يتركها في القلعة، لغرض الرجوع إليها حين محاولة العثور على عيّنة ما، والأخرى يحتفظ بها في البيت تحسباً من ضياع نسخة القلعة· ويوم استطاع الحصول على أول مجموعة من كتب شبيب طاهر الغياث فتح سجلاً جديداً - بنسختين بطبيعة الحال - ليدوّن في أول صفحة منه قائمة بعناوين تلك الكتب وهو يكاد يرقص على كرسيه طرباً· لكنه، وقبل أن يُنهي تسجيل آخر عنوان، فوجئ بشبيب يقتحم عليه غرفته هاتفاً به بازدراء:
 
- خذ·· يا أستاذ·· بدر!     
 
ورمى شبيب بالأوراق النقدية التي كانت قد تبللت بعرق كفه فوق السجلّ المفتوح بين يدي بدر الذي ومضتْ عيناه الزرقاوان بنظرة غضب لم تدم سوى لحظة واحدة اختفت بعدها عيناه بين غضون أجفانه وهو يصرّ بضحكة مجاملة، وقد أدرك أنه بإزاء رجل لن يجدي الغضب معه فتيلاً، ووثب من خلف منضدته ليقول، وهو ينقضّ بأصابعه على الأوراق النقدية:
 
- لمَ الغضب يا أستاذ شبيب؟

الصفحات