أنت هنا

قراءة كتاب إعرابا لشكل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
إعرابا لشكل

إعرابا لشكل

الكتاب الشعري "إعرابا لشكل"؛ للكاتب اللبناني شربل داغر؛ نق{أ من أجوائه:
شهوة الغائب عن ملكه
أُقبل عليها في هيئة الخارج منها·

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
عوليس يعود مختلفاً
 
أجدني أقرب إلى عوليس مني إلى بينيلوب، في إقبالي على الكتابة، في وفائي لها، وإن إثر غربات متعددة ومتجددة: عوليس يعود إلى زوجته الصابرة، ولكن بعد هجرات وأسفار ومغامرات لن يسلم من تأثراتها وتغيراتها؛ أما بينيلوب فتبقى جالسة أمام نولها، تعمل عليه من دون أن تنتهي من الحياكة· تَكرُّها وتبدأ من جديد··· إلى أن يعود عوليس أخيراً، فتضع اللمسة الأخيرة على نولها، وتنهي حوك النسيج بعد سنوات وسنوات· هو يأتي بين الوفاء والتجدد، فيما تأسر، هي، الزمن، وتوقفه عند واقعة بعينها تريدها أن تكون المعنى الوحيد والأكيد لعملها، ولحياتها·
 
أُقبل على الكتابة إقبال الحبيب على حبيبة واحدة، لا على اثنتين في الوقت عينه· هذا أقل الوفاء، وهذا أعلى الحب من دون شك· ذلك أنني لا أحسن الانصراف إلى الترجمة وأنا منهمك في كتابة بحث، ولا إلى كتابة في التاريخ الفني وأنا منغمس في تخويض الشعر وتقليبه على معانيه· مثل هذا التعدد يقلق البعض، لا يقلقني، أو ما عاد يقلقني بالأحرى، بعد أن وجدت سبيلاً إلى القبول، إلى الاعتياد عليه، إلى الاعتقاد بأنه نعمة، لا نقمة· إلا أن الأمر لم يخلُ من مصاعب، ولا يزال، طالما أنني لا أستطيع توجيه كتابتي، ولا سَوْقَها بقدرة ساحرة· عدا أن الكتابة سباحة في ماء، لا تقوم فيها حدود بينة أو أكيدة، فضلاً عن أن وسائل التعبير تلتقي حيث لا نتوقعها· فكيف أوزع نفسي في نفوس كثيرة، وهذه الأنا تسبقني إلى حيث تريد أو تميل بالأحرى!
 
هذا يعني التعدد في اجتماع الكتابة، في حاصلها، لكنه لا يعنيه في ممارسة الكتابة، في ممارسة نوع منها· إذ أن الانصراف التام إليها هو ما يفعله الكاتب، وهو ما يطلبه، وإن كان لا يحصله في أحيان كثيرة· طالما أن الترجمة، وإن عنت الأمانة في نقلها، تستدعي في عملياتها الكتابية شيئاً من التأليف· وهذا ما يمكن قوله في الشعر نفسه، إذ أن كتابته، حين تنفتح على مصادر وأساليب متنوعة، تجد في هذا التفلت ما يربكها، ما يجعلها تقتصد، باحثة عما يجعلها تسير فوق خيط دقيق، بين النثر والشعر، من دون أن تسلم من ميل إلى هذا على حساب ذاك، وبالعكس·
 
وأنا في ذلك أقرب إلى عوليس، كما قلت، إذ أنني أعود مثله من هجرات ومغامرات إلى بيتي، إلى كتابتي، على أن لي بيوتاً كثيرة في البيت الواحد، وأتنقل واقعاً من غرفة إلى أخرى· أعود في كل مرة مختلفاً، وإن أبدو بشهوة الغائب عن ملكه· الغائب يعود مختلفاً، وإن تحركه شهوة الاستعادة، استعادة ما كان عليه، ما سبق له أن توقف عنده، كما لو أنه يستعيده أو يباشره للمرة الأولى·
 
أعرفُ، بل أُقر بأن في ذلك مقادير كبيرة من الهجرات، من الخيانات، من العودات التائبة أو الفاجرة· وأدرك كذلك أن الرغبات في الكتابة مختلفة، متفاوتة، وإن تؤدي في نهاية المطاف إلى إبقاء الجذوة مشتعلة· فالشعر يبقى بين غيره من هذه الرغبات الشهوة الأبقى، والتي تثير في الجسد وتستنهض قواه الأبعد والأعمق، حيث يتقدم الشاعر فوق خيط دقيق، أقرب إلى المُرَوْبِص، مثلما كتبت ذات يوم، بين الظن والحقيقة·
 
أجدني أقرب إلى عوليس، وإن كنت أمدح بينيلوب في الظاهر· أقرب إلى نفسي التي أستقصيها في السفر، في الابتعاد، لا في القربى الأليفة التي تخفي أكثر مما تظهر، والتي تراكم أكثر مما تجلو· أستقصيها في الشعر الذي يقربني من نفسي، إذ يواقعني ويخادعني، فأبدو مخاتلاً أكثر مني مصمماً، ومراهناً أكثر مني صادحاً بالأقوال الأكيدة· هذه المخاتلة يوفرها الشعر وحده، فيبدو في خفته شديد الجدية، وفي لعبه جسيماً، وفي سفره أكثر إقامة في جسد الكائن، في جسد الكون، بوصفه بيت الرغبة·

الصفحات