أنت هنا

قراءة كتاب رواية الواقعية الرقمية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رواية الواقعية الرقمية

رواية الواقعية الرقمية

بعد نشر روايتي الثانية ظلال الواحد في نسختها الرقمية على شبكة الإنترنت فوجئت بأن العديد أو الغالبية العظمى من المثقفين في وسطنا الأدبي لم يقرأ الرواية، واتضح لي أنّ هناك العديد منهم لا يعرف حتى التّعامل مع جهاز الحاسوب، بينما قال البعض الآخر إنهم غير معتادي

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

الفصل الأول

العصر الرقمي والرواية

إنّ لحظات التّحوّل في التاريخ البشريّ هي لحظات ارتباك وحيرة للغالبيّة الكبرى من البشر، وهي لحظات ارتباك لأنها لحظات تفصل بين زمنين وطريقتين مختلفتين للحياة، وهي لحظات قد تبدو مشوّهة أيضاً، وذلك لما يعتريها من غموض وحيرة وضبابيّة في الرؤية، إنها تشبه تماما تلك الحالة التي يتحوّل فيها الإنسان من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب والرجولة حيث يغدو الإنسان لا هو بالطفل ولا هو بالرجل وإنما هو بين بين، بحيث تولد حيرة للآخر في كيفية التعامل معه، ولهذا فقد سميت هذه الفترة من عمر الإنسان بالمراهقة، وهي كلمة تحمل في ثناياها الكثير، ومع ذلك فإنّ هذه اللحظات هي لحظات قصيرة ينتقل بعدها الإنسان إلى مرحلة الشباب والنضج·
ونحن نعيش الآن في زمن مشابه ولحظات مشابهة، ذلك أننا بدأنا وفي مدى زمني أقصر من المتوقع ندخل بقوّة للعيش في زمن آخر وفي عصر آخر··· إنّه العصر الرقمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى ما زال غير واضح للكثيرين، فهناك الآن بيوت تتحدث للحاسبات ومجلات تتحدث للتليفونات اللاسلكية وسيارات تتحدث للإنترنت، وأصبحت المعلومة في متناول الجميع بعد أنْ كانت حكراً على بعض البشر، وغدا الكمبيوتر جزءاً أساسياً من متطلبات الحياة التي لا غنى عنها، وبدأنا نشهد تحولاً في وسائل التعليم وموضوعاته، وبدخول الإنترنت والهاتف المحمول التغت المسافة أو كادت أنْ تلتغي، وتقارب الزمن حتى كاد أنْ يصبح واحداً، فلا زمان ولا مكان قادر أنْ يفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، حتى أمسى العالم كله ليس قرية صغيرة كما كان شائعاً في العصر التكنولوجي، بل أصغر من حجرة صغيرة في بيت، أصبح العالم شاشة···مجرد شاشة زرقاء ·
وغدا التّحدّث أو رؤية شخص آخر مهما كان مكانه في المعمورة لا يأخذ سوى بضع ثوان أو أقل، وبدخول تكنولوجيا الواقع الافتراضي أصبح الخيال واقعاً والمستحيل إمكانية، فكثيراً ما كان يهرب الإنسان من الواقع بمشكلاته المختلفة إلى دنيا التخيّل والافتراضات التي لا تحدها مشاكل أو قيود فيحقق في الخيال ما يعجز عن تحقيقه في الواقع ولذلك فهو يحلم دائما بأن تذوب الفوارق بين الحقيقة والخيال ليستمتع بكل شيء، ومن جانبها التقطت تكنولوجيا المعلومات هذا الحلم وحاولت تحقيقه لتتيح مستوى جديد من الحياة لم يكن ممكناً في السابق إلاّ في الأحلام·
وبالطبع فإنّ تكنولوجيا المعلومات ليست قادرة على تحويل كل التخيلات إلى حقيقة لكن يمكن القول إنها استطاعت حتى الآن وضع آليات قادرة على ذلك وأن تذيب بعض الفوارق بين الواقع والافتراض تحت ظروف معينة وتنشئ منهما مزيجاً جديداً أطلق عليه اسم الحقيقة التخيلية أو الواقع الافتراضي وهو نوع من الوقائع أو الحقائق التي يجري صنعها وتكوينها عبر برامج وحاسبات متخصصة في ذلك لتظهر وتتجسد بالشكل الذي تجري به على أرض الواقع فعلاً، وقد تطور مفهوم الواقع الافتراضي ليصبح اتجاهاً أو فلسفة رحبة لا تقتصر فقط على برامج الصور ثلاثية الأبعاد ولكن تشمل أيضا تكوين الخدمات والكيانات والمنتجات الافتراضية في كل مجال من مجالات الحياة، ومن المتوقع مستقبلاً أنْ تذوب الفواصل بين الواقع والافتراض بشكل شبه تام، بل إننا بدأنا في رؤية هذه الفواصل تتلاشى منذ الآن·
ففي مجال التعليم مثلاً بدأت تظهر المدارس التخيلية التي ليس لها وجود مادي على أرض الواقع ولكنها موجودة فقط في ذاكرة الحاسبات العملاقة ومواقع شبكة الإنترنت ونظم معلومات التعليم المختلفة، بل إنّ المدرسة الحقيقية العادية أصبح لها وجه افتراضي إلى جانب وجهها الواقعي، فهناك الآن أعداد كبيرة من المدارس والجامعات التي أنشأت لنفسها مواقع على الإنترنت تقدم خدمات تعليميّة دخلت في صميم المنهج الدراسي، وأصبحت من الأجزاء الأساسية المكونة له، فهناك دروس تبث عبر الشبكة وهناك مدرسون افتراضيون يمكن التوجه لهم بالأسئلة والدخول معهم في حوارات تفاعلية كاملة والأمر لم يتوقف على المدارس فقط بل وصل إلى الجامعات وخرج إلى دول العالم المختلفة، بحيث أصبحنا نرى الآن خريجين يحملون الشهادات الجامعية من جامعات موجودة في الخيال فقط·
أمّا في مجال التجارة فظهر مفهوم التجارة الإلكترونية حيث أصبح بإمكان الناس أنْ يشتروا أي شيء يريدونـه مـن أي مكان في العالم وفي أي وقت يشاءون عن طريق الإنترنت من دون مغادرة أماكن جلوسهم خلف الشاشة الزرقاء، وأصبح إنشاء الشركات وممارسة الأعمال لا يحتاج لأكثر من جهاز حاسوب واتصال بشبكة الإنترنت وعقلية متفتحة لتدخل بقوة إلى عالم تحقيق الأحلام ·
وليس هذين سوى مثلين فقط مما يهجس بهما العصر الرقمي بما يحمله من إمكانيات لا تعد ولا تحصى·
لقد تغيّر شكل الحياة تبعا لذلك، وتغيّر الناس، وتغيّرت المفاهيم والقيم أو هي في طريقها للتغيّر السريع ·· لقد ظهر إلى الوجود مفهوم الحياة الرقمية والمجتمع الرقمي والواقع التّخيلي و··· الإنسان الافتراضي···
إن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا عن الفنّ··· الأدب··· الرواية تحديداً ؟؟؟
هل تستطيع الرّواية بشكلها الحالي أنْ تستوعب الثورة الرقمية المتسارعة في العالم، أم أنها يجب أنْ تتخلى عن مكانتها لصالح أشكال تعبيرية وإبداعية أخرى أكثر قدرة وجاذبية كالسينما أو البرمجة مثلاً؟؟؟؟
وهذا السؤال يقود إلى سؤال آخر: هل الروائي بشكله وأدواته الحالية قادر على المضي في مغامرة الرّواية في ظل العصر الرقمي الآخذ بالتشكل؟؟؟
والسؤال السابق بشكل أكثر وقاحة: هل الروائي بأدواته الحالية المستهلكة قادر على أنْ يبقى روائياً؟؟
وفي الحقيقة فإنّ محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ستقود إلى دوامة محمومة أخرى من الأسئلة من مثل:ما موضوع الرواية القادمة؟؟ ما لغتها، بل ما هي اللغة أصلاً؟؟ وهل الكتاب - بشكله الورقي المعهود- قادر على استيعاب الرواية القادمة؟؟؟ أم أننا بحاجة إلى لغة أخرى وكتاب آخر؟؟؟؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة التي يلد بعضها بعضاً في سلسلة ملعونة وموتورة يجب أنْ يقودنا إلى التوقف والعودة إلى التاريخ ··· تاريخ الرواية·
ولكن قبل العودة إلى التاريخ دعونا نستمع إلى آينشتاين وهو يهمس إنّ المعرفة محدودة ولكنّ الخيال غير محدود ثم ننطلق من هذه الهمسة الصغيرة في محاولة الإجابة عن حقل الألغام السابق·
حين أطلق سرفانتس العنان لخياله ليحلم بعالم آخر غير عالمه الواقعي الذي لم يكن قادراً على تقبّله والتعايش معه، كتب الدون كيشوت، كان الدون كيشوت استجابة عملية لخيال غير عملي، ذلك لأنّ سرفانتس كان مسكوناً بالماضي وبالقيم الأخلاقية التي سادت في زمن لم يعد قائماً، زمن الفرسان والنبلاء والفضيلة حيث تسود قيم الخير والحق والجمال، وحيث إن العالم الذي كان يعيش فيه سرفانتس كان عالماً من فوضى فقد كانت الإمبراطورية الإسبانية في قمة تحللها وانهيارها، فكان لا بد له من العودة إلى الماضي فعاد·
من هذه النقطة انطلقت الرواية الحديثة بمعناها الواسع·
لكن السرد لم يبدأ بالرّواية، فقبل سرفانتس والدون كيشوت كانت ليالي ألف ليلة وليلة، التي تعتبر بحق تأسيساً عملياً للرواية·
كانت ليالي شهرزاد نوعاً آخر من الاستجابة العملية لخيال غير عملي هرباً من واقع مرعب، واقع مليء بالظلم وانهيار القيم·
إذاً فقد جاءت الرّواية وليدة للخيال البشري الجامح الذي حاول أنْ ينشئ عالماً آخر موازياً لعالم واقعي مرفوض أصلاً، وهذا يعني أنّ الرواية ولدت نتيجة لحافز فاعل ورد فعل فاعل موازٍ له في القوة ومعاكس له في الاتجاه حسب القانون الثالث من قوانيـن نيوتن·
لكنّ خيال سرفانتس وكتاب ألف ليلة وليلة، ومن بعدهم المحدثون أمثال وليم فوكنر كان خيالاً سلفياً - ولهذا كان غير عملي- إذا صحّ التعبير، فسرفانتس لم يتخيل المستقبل بل الماضي وكذلك فعل فوكنر وكاتب ألف ليلة وليلة ومن جاء بعدهم من الروائيين·
حنّ سرفانتس لماضٍ عريق كانت تسود فيه قيم معينة فاخترع الدون كيشوت وحنّ فوكنر لماضي الجنوب الأمريكي قبل أنْ يدنسه الشمال المنتصر فاخترع مقاطعة يوكنا باتوفا التي تدور في أرجائها أحداث كل رواياته·
أمّا كاتب ألف ليلة وليلة فقد حنّ لماضٍ أشدّ إيغالاً وعمقاً في التاريخ، ماضي التكون الحلمي الأول للإنسان، حيث كانت الأساطير هي المهيمنة على الفعل البشري، وفي الحقيقة فإن عمل الخيال البشري بهذه الطريقة الارتدادية إنما يدل في أحد أوجهه على الطفولة الحلمية المرعبة التي عاشتها البشرية في عصورها الأولى قبل أنْ يتشكل الوعي·
هذه الطفولة التي تخزنت في اللاوعي الجمعي للبشرية، وارتدت فيما بعد - بعد مرحلة تشكّل الوعي- إلى عنف دموي لا يرحم لون الكرة الأرضية بالأحمر القاني· فقد عاش الإنسان في أول تواجده على هذه الأرض ضمن بيئة قاسية، مليئة بالظواهر الطبيعية المعادية والوحوش الكاسرة التي كانت تنقضّ عليه بلا هوادة أو شفقة· ومراجعة بسيطة لمجمل الأساطير البشرية ستدلنا بشكل مؤكد على هذه البيئة المرعبة، ولنأخذ أسطورة التنين الذي ينفث النار، أو أسطورة الأفعى لوتيان ذات الرؤوس السبعة على سبيل المثال، حيث تدلنا هذه الأساطير على أنّ بدء تواجد الإنسان على هذه الأرض يمتد إلى عصر الديناصورات، فالتنين ليس أكثر من طائر ضخم ومفترس، وكذلك الأفعى ذات الرؤوس السبعة، ولابدّ أنّ الإنسان في المرحلة الحلمية الطفولية قد واجه عالماً في غاية الرعب والشراسة·
عالم قاس تخزن في لا وعيه الجمعي، ثم ظهر بعد تشكّل هذا الوعي على شكل عنف مدمّر، سواء كان ضدّ أخيه الإنسان، أو ضدّ الحيوان، أو ضدّ البيئة المحيطة بشكل عام·
فالإنسان هو أكثر الكائنات عنفاً ودموية، وهذا شيء مبرر، فمن المعروف في علم النفس أنّ الطفل الذي يعيش طفولة قاسية وعنيفة يكون ميالاً للعنف حين يكبر وينضج، من هنا لم يكن غريباً أبداً أنْ يلون الإنسان الوجود بلون الدم، ولم يكن غريباً أيضاً أنْ يرتد مبدعوه وروائيوه الأوائل في خيالهم إلى تلك الطفولة المرعبة في محاولة منهم لفهمها واستيعابها·
 

الصفحات