أنت هنا

قراءة كتاب البردويل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البردويل

البردويل

كتاب " البردويل " ، تأليف عبدالله هلال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

ربما يساعد بقاؤه على السطح على امتصاص غضبها وتهدئة ثورتها بإثارة عطفها عليه، فالطقس بارد جداً وقد يتحمل ساعة ولكن لا يتحمل ساعتين. هو يعرف أنّ منع تصاعد أية مشكلة قد يكون في إغضاء الطرف للحظة، أو الصمت عن كلمة واحدة، فمن الحكمة أن لا تراه مريم أبداً هذه الليلة.
حاول أن يتدلى من على السطح من الجهة الخلفية للغرف، لكنه توقف عن تنفيذ غلطة كهذه، فقد يراه أحد الجيران أو المارّة قرب المنزل، أو راعٍ يتفقد أغنامه، لن يستطيع تسويغ تصرفه لأحد.
لسعته حدة البرد أكثر، حاول أنْ يسير على السطح كلص، دون أن يصدر أي صوت، تماماً كما حصل معه ليلة أمس عندما كان ينتظر البردويل. إذاً هي هي الحالة، أمس بسبب البردويل، واليوم بسبب مريم وكلاهما معتديان، وفي الحالتين لا ذنب لي في هذا الذي أنا فيه.
لم يعد يحتمل البرد وقدر أن مريم ربما تكون قد نامت الآن، تسلل نازلاً الدرج ثم دلف بحذر إلى الغرفة التي أعطوه إياها، اندس في الفراش وهو لا يصدق أنّ ليلته ستمضي بسلام. كان يتوقع بين الفينة والأخرى اقتحام مريم لغرفته، وادعاءها بأنه يتلصص عليها، أو أية اتهامات كانت كافية لتصديق عائلتها ومنْ حولهم، ويكون أحمد قد خان من آواه في منزله.
رغم الدفء في الغرفة، بقي متقلّص الأعصاب، لم يتمدد في فراشه كمن يخاف إن حرّك رجليه أن تثور ثائرة من في المنزل، امتد ظلام تلك الليلة، وما من وسيلة لاستعجال صباح الغد فالشمس، كعادتها، تتأخر على منْ ينتظرها...!!
انتقع في سوداوية أفكاره، لماذا تتكاثف غيوم هذه الأحداث فوق سمائي؟ خوفي من رجال الشرطة أقل من خوفي من غضب مريم. أهلي في الجمّارة، وما قد يلاقونه من جماعة البردويل، زوجي في الزعفرانة، وغياب الرجل عن المنزل ومعاناتها بعدي. لم أسمح لها ولم تحتج خلال السنوات العشر أن تذهب إلى السمّان بنفسها مرّة واحدة. ولداي، القاسم وهدى وحالتهما وما قد يلاقيانه في المدرسة والحارة بعد غيابي عن المنزل...
كل هذا قد توقعته قبل ذهابي إلى الجمّارة، لكنْ لم أتوقع البتة ما حصل مع مريم، يا لك من امرأة معتدية، فقد أبديت لك عذري، إنّ جسدي كجسد المشلول، ولم تصدّقي أنني عاجزٌ تماماً عن ممارسة الجنس، فأنا في منقع من الخوف، والقلق، والتفكير في احتمالات عدّة لما قد يحصل معي بعد ساعة أو في الغد، وطلبت منك النزول بإلحاح فالطقس بارد، وتقولين لي المس جسدي، هل حرارته تغلبت على صقيع ذلك الليل. لكثرة ما قلب أفكاره أخذ يهذي وشعر بدوار لم يكن قد تعرض له قبلاً، ابتسم قليلاً وهو في شبه هذيان، حتى لو كنت صحيح البال والجسم فلن أوافق على ما طلبتِ، إذ لا يمكنني أبداً مضاجعة امرأة بين أسنانها بقايا طعام، وتحت أظفارها تكدس الوسخ، هكذا ولتغضبي مني أكثر، إنني.. إنني، وسحبه إعياؤه إلى نوم محموم مثقل بالأحلام. مريم تضحك وقد ظهر لون الذهب على أضراسها، تقول للناس في العامريّة، إنه رجلٌ شريف استطاع أنْ يتصدى للبردويل وقد آويته في منزلي، وكان من خيرة الرجال أخلاقاً، مريم تبكي وتقول إنّ هذا الرجل قد خان صداقة شقيقي وتنكر لخدمة زوجي واعتدى على حرمة منزلي، طلب مني الفاحشة!!
هكذا إذاً يا مريم، شريف إن لبيت دعوتك إلى وليمة جسدك وخائن إنْ رفضت؟ صرخت في وجهه، إنكم تحترمون منْ لا يستحق الاحترام، هذا الرجل يجب أن يعرف الجميع أنه نذلٌ حقير، صاح في نومه يكفي!!
استيقظ بعيد شروق الشمس، فتح عينيه ليجد محمود واقفاً قرب فراشه، هل أرسلته مريم لطردي؟ قبل أن يستعرض خياراته المتاحة بادره محمود:
- (خير أحمد أشو فيك؟ سمعت صوتك وانتي نييم)
أخذ نفساً طويلاً، وشعر بالارتياح حينما طلب منه محمود أنْ يتبعه لتناول طعام الإفطار. شدّ ما كانت دهشته كبيرة حينما وقعت عيناه على مريم جالسة في فراشها وقد غطّت جسمها بلحاف، جسمها مستيقظ ولكن بدا عليها الوهن والمرض. بدأ محمود يعتذر،
- (ما بعرف أشو صار لمريم فقنا الصبح لقيناها مرضاني)
طفل في عامه السابع من بين أفراد الأسرة كان ينظر إلى أحمد وإلى أمه، كأنه يعلم أنّ أحدهما قد تسبب بمرض الآخر. أكل أحمد بضع لقيمات ثم قام مودعاً، نظرت مريم بعيداً وهي تردُّ على كلمات الوداع. طرق الباب على والد محمود وفتح الباب ليودعه، الكيو في عامه التسعين لا يغادر غرفته الصغيرة، كانت غرفة للوقود واستعملها محمود لاحقاً غرفة لوالده، لاحظ أحمد بوضوح أنّ عيني الكيو يتساءلان، ربما عن سبب مرض مريم؟
في الطريق إلى المدينة في سيارة الأجرة، أخذ معه أحداث ليل أمس وهذا الصباح، طفل في عامه السابع وشيخ في عامه التسعين، هما من بين أفراد أسرة فيها الشاب والشابة والشيخ المسنّ، هل هذا صدفة؟ هل عند هذا الطفل إحساسٌ ما متقدم في هذا المجال على الأقل ومتخلّف أو عادي في مجالات أخرى؟ هل إحساسه المتقدم جعل منه أكبر من سنه بعشرين سنة، مما حرّك عنده شعوراً ما أنّ لهذا الضيف علاقة بمرض والدته، كما أنّ تجربة ذلك الشيخ كبير السن جعلته أيضاً يعتقد الاعتقاد ذاته، وبدأ يدور في أفكاره حول رجل يحمل على كاهله تسعين عاماً، وكيف شعوره الآن وهو يرى ضعف ولده في جميع ممارساته، وخاصة ضعفه أمام امرأته التي تحتقره وتسعى للاتصال بأي رجل، مداومة على ذلك منذ تزوجها محمود. حالة تدعو للإشفاق، هذا الشيخ المركون في غرفة الحطب، ويرى زوج ابنه وهي تتملق الرجال لأن زوجها لم يستطع إشباع حاجاتها. هل يستطيع أحد تمثل مشاعر هذا الرجل التسعيني في حالات العجز عنده؟ هو عاجزٌ عن ردع كنته وعاجزٌ عن الذهاب إلى أي مكان، وعاجزٌ عن استقبال أي ضيف، ربما هناك من جيله منْ يستريح إلى مجالستهم. على أية حال هو نفسه في حالة تدعو إلى الشفقة، فليسترح من تأملاته هذه، ها وقد شارفت السيارة على الدخول إلى المدينة.
هذه هي حلب، استوعبته في جوفها بين من استوعبت، لا شك أنّ المدينة أرحب من القرية، يستطيع أن يتحرك ويمارس حياةً شبه عاديّة فيها. صديقه الأقرب هو أبو بكري، أمضيا الخدمة الإلزامية في الجيش معاً وناما في خيمة واحدة، وكثيراً ما كان يقتسم معه رغيف الخبز والليرة الواحدة. أبو بكري يعمل حذّاءً ولم يكن يستطيع تأمين ما يلزمه من مال لنفقاته أثناء خدمة العلم فوجد ضالته عند احمد، كان يستعين به في كل ما يلزمه من طعام أو سجائر أو النزول إلى دمشق في أيام الخميس، ولم يتذمر أحمد أو يشكو، كأنما هو قدر عليه تحمّله.
لم يستجب أبو بكري لطلب أحمد بتأمين غرفة قريبة من منزله، كما لم يستضفه في منزله، ولو ليوم واحد. وجد له مسوّغاً، فمنزله لا يتسع لاستقبال ضيف، أما أن لم يدعه لتناول الغداء في بيته فهذا الذي لم يجد له مسوغاً. وبدأت أفكاره تتلاطم كأمواج البحر عن سر تخاذل صديق كهذا كان قد بذل له الكثير من ماله ووقته، وعاشا فترةً لها حلاوتها على أية حال. لكن لابد من الاستكانة إلى الواقع والبحث عن مسوّغات فالضيف ثقيل على ابن المدينة خفيف على ابن الريف وهذا ينسحب على أبي بكري، الصديق، ابن المدينة، الذي لم يستضف صديقه.
ذهبا معاً لاكتراء غرفة على السطح في منزل قديم في حي بعيد عن سكن أبي بكري الذي ودّعه برشاقة مضحكة تذكر بخفّة يد ابن المدينة وهو يلعب (الكشتبان).
صعد إلى السطح، تفحص المكان ثم دخل إلى غرفته مع بعض حاجيات كان قد ابتاعها تواً، إبريق شاي صغير، وموقد يعمل على الغاز وبعض الأكواب.
نزل من غرفته وكان توفيق صاحب البيت يستعد لمغادرة المنزل أيضاً. ترافقا وحاول توفيق أن يشرح له إحداثيات الحي بشكل مختصر، لاحظ أنّ جاره الجديد هذا غريب الأطوار، فلم يهتم بالمختار والسمَّان والمخفر، بل سأله لم هناك عدد كبير من القطط في الحي وهل أحدٌ يطعمها؟!

الصفحات