أنت هنا

قراءة كتاب المغمور من أديان الشرق الأوسط

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المغمور من أديان الشرق الأوسط

المغمور من أديان الشرق الأوسط

كتاب " المغمور من أديان الشرق الأوسط " ، تأليف د.

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 2

توطئة

لم يكن غرضي من تأليف هذه الدراسة مجرد التعريف بثلاثة من أديان الأقليات الثانوية المغمورة الموجودة في إقليم الشرق الأوسط بشيء من التفصيل، بقدر ما كان هذا جزءًا من جهد لإلقاء الضوء على بقايا راسبة من أنظمة دينية وعبادات غائرة في القِدم؛ بل ومنسية نسبيًا؛ كانت قد اعتنقتها أقوام وسلالاتٌ لم تترك الكثير من الشواخص للأجيال التالية سوى بقايا من معتقدات روحية وطقوس لم تزل حيَّة اليوم، ليس كأجزاء من الأديان الأصلية كما كانت معتنقة في قديم الأزمنة، ولكن كأجزاء ضُمت لعدد من الأديان "التوفيقية" أو التركيبية syncretistic religions من النوع الذي سيتم بحثه عبر الفصول القادمة.

أما فيما إذا كانت هذه الأديان التي تعتنقها أقليات صغيرة عدديًا، ذات دلالة ما بالنسبة للقارئ المعاصر، فان الأمر يبقى مرتهنًا بكيفية مباشرته هذه الأديان ودوافع تعمقه في تفحص جوانبها المتنوعة، تلك الجوانب التي تتموضع في قلب هذا العمل وتستحث المزيد من البحث والاستقصاء، ليس بهدف الوصف المجرَّد فقط، ولكن كذلك بهدف إلقاء الضوء على دلالاتها بالنسبة لقضايا اجتماعية وسياسية معاصرة ترتبط بأزمات الشرق الأوسط الذي، للأسف، يغرقه العنف الطائفي والضغائن الدينية، حارمة شعوبه من إيجاد موطئ قدم لها في مسيرة ركب التقدم إلى أمام على نحوٍ موازٍ للتقدم الذي تحرزه شعوب العالم الأخرى. تبدو الصراعات الداخلية في هذا الإقليم الملتهب؛ خاصة الدينية والطائفية منها؛ كأنها تتناسل وتتوالد على نحو تسلسلي وتراكمي بلا نهاية منظورة، عاكسة عبر تفاعلاتها وآثارها المأساوية نمطًا توسعيًا من النمو والتشعب المضطرد عبر الإقليم اليوم.

وليس بأقل أهمية مما ذُكر في أعلاه، تبرز ملاحظة: كيف تتفاعل العواطف الدينية والطائفية وتتصاعد حتى تنقلب إلى ضغائن ومشاعر كراهية تصبُّ في بناء الجدران العازلة التي تبقى حابسة أغلب شعوب الشرق الأوسط في زنزانة "حلم الأسلاف" الرجوعي المتوثب إلى العصر الوسيط، وهي حال فكرية واجتماعية معقدة توصد كافة أبواب ونوافذ التحرر نحو آفاق مستقبل مشرق يعد بالسلام.

لا يتشبث هذا الجهد بتغطية جميع التقاليد الدينية للأقليات على مدى هذا الإقليم المترامي الجميل والمتداخل التفاصيل، فهو إقليم عصي على الاحتواء لأنه "إقليم المفارقات"؛ كما أفضِّل أن أطلق عليه على نحو متكرر، بلا تعسف. والحق أقول، فإن هذه الأديان لا تزيد عن جوانب ومكونات من تعقيد شائك أوسع، تعقيد قوامه أنواع الأقليات الإثنية والدينية التي تشكِّل - مع الأغلبيات وتقسيماتها الفرعية الثانوية - البِنى الاجتماعية لشعوب الشرق الأوسط. ولكن في دواخل هذا الفسيفساء المربك، تميز هذه الأقليات الدينية نفسها عن سواها من الأقليات عبر عنايتها باستقلال شخصياتها وحرصها على المحافظة على مسافات فاصلة بينها وبين الأغلبية، من ناحية، وبينها وبين سواها من الأقليات، من الناحية الأخرى. هي أقليات حريصة، كذلك، على حفظ مسافة فاصلة بينها وبين الأقليات التي غالبًا ما تنمو تفرعات أو تبرعمات من التقاليد الروحية الرئيسة التي غالبًا ما تقرن بالشرق الأوسط، باعتباره إقليم ظهورها إلى الوجود، كاليهودية والمسيحية والإسلام.

إن التعقيد الديموغرافي لأديان الأقليات إنما هو في الغالب، نتاج تفاعلات وتتابعات لا متناهية، أشبه ما تكون بالصندوق الصيني، المتشكل من طبقات تميط اللثام عن طبقات أخرى من الجماعات الدينية، بضمن تشعباتها من الطوائف والعبادات والمعتقدات الروحية الأخرى.

إن المعيار الأساس الذي اعتمدتُه لانتقاء ديانات أهل الحق والمندائية واليزيدية إنما هو - بغض النظر عن احتوائها على عناصر تعود إلى الديانات الرئيسة المشار إليها أعلاه - أنها أديان لا تقبل التصنيف في سلال عامة رئيسة كسلال اليهودية والمسيحية والإسلام، فالأخيرة هي أديان يحسم الباحثون تصنيفها في سلة "السامية" و "التوحيدية"، على نحو غائم ومغرق بالتعميمية. هنا لا نتعامل مع طوائف ولا مع تشعبات منبعثة من الديانات الرئيسة لأن ما يعقد موضوع التصنيف إنما ينبعث من الافتراض الأساس الذي يفيد بأنها ديانات تركيبية الطبيعة، بمعنى أنها تجمع عناصر من مختلف الديانات التاريخية القديمة، الأمر الذي يفاقم من صعوبة حل معضلة الأصول والتصنيف.

بينما تتماهى أديان الأغلبيات السُكَّانية من خلال إحالة عقيدة التوحيد إليها، حكرًا، فإن أهل الحق والمندائيين واليزيديين إنما يتشبثون بذات العقيدة، ولكن من منظورات أخرى، منها منظورات قد تبدو لـ"الآخرين" مقلوبة رأسًا على عقب، منظورات تتطلب المباشرة من زاوية أخرى، زاوية تتناغم مع رؤى مختلفة وفلسفات كونية قد لا تتواءم مع ما غُرس في دواخلنا وما نتمسك به، توارثًا، بوصفه التقليد المقبول.

الصفحات