أنت هنا

قراءة كتاب العلمانية والحداثة والعولمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العلمانية والحداثة والعولمة

العلمانية والحداثة والعولمة

كتاب " العلمانية والحداثة والعولمة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 7

س: هذا يعني أن لكل حضارة مقاييسها ومعاييرها، ألا يعني هذا سقوطاً في النسبية؟

ج: نعم، هذا الموقف يعني قبول قدر من النسبية والاختلاف وعدم التجانس واحترام الآخر، على أن تظل الإنسانية المشتركة هي المرجعية النهائية لنا جميعاً حتى لا نسقط في النسبية الشاملة العدمية، وأطلق على هذا الموقف اسم "النسبية النسبية"، فهي ليست نسبية شاملة ومطلقة، إذ تظل هناك معايير وقيم ومرجعية نهائية متجاوزة لصيرورة المادة!

س: مصطلح "الطبيعة/المادة"، يبدو كما لو كان جديداً، ولكنه مكون من مصطلحين كلاهما شائع ومعروف، فهل لك أن تفسر لنا ما المقصود بهذا المصطلح الجديد القديم؟

ج: لشرح هذا المصطلح سأبدأ بالقول إنني أؤمن بأن ثمة فارقاً جوهرياً كيفياً بين عالم الإنسان المركب، المحفوف بالأسرار، وعالم الطبيعة (والأشياء والمادة)، وأن الحيز الإنساني مختلف عن الحيز الطبيعي المادي، مستقل عنه، وأن الإنسان يوجد في الطبيعة ولكنه ليس جزءاً عضوياً منها، لأن فيه من الخصائص ما يجعله مختلفاً عن النظام الطبيعي/المادي، ومن ثم فهو قادر على تجاوزها وتجاوز قوانينها الحتمية، وصولاً إلى رحابة الإنسانية وتركيبيتها (وهذا هو مصدر ثنائية الإنساني والطبيعي التي تسم كل الأنساق المعرفية الهيومانية الإنسانية «humanistic»، دينية كانت أم إلحادية).

والطبيعة، في الخطاب الفلسفي الغربي الحديث، هي نظام يتحرك بلا هدف أو غاية، نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، توجد مقومات حياته وحركته داخله، يحوي داخله ما يلزم لفهمه، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، وهو نظام ضروري كلي شامل، تنضوي كل الأشياء تحته. والتفكير المادي يرى أسبقية الطبيعة على الإنسان ومن ثم يختزله إلى قوانينها ويخضعه إلى حتمياتها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها، ويختفي ككيان مركب متجاوز للطبيعة وللمادة، منفصل نسبياً عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة، أي إن الحيز الإنساني يختفي ويبتلعه الحيز المادي، وبدلاً من ثنائية الإنساني والطبيعي تظهر الواحدية الطبيعية. ولكن صفات الطبيعة التي أدرجناها هي ذاتها صفات المادة بالمعنى الفلسفي، ولذا فنحن نرى أن كلمة "المادة" يجب أن تحل محل كلمة "الطبيعة" أو أن تضاف الواحدة للأخرى، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية المادية. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال: "يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة". وهو قد تَبِعَ في ذلك كلاً من داروين ونيتشه، وانطلق من واحد من أهم التقاليد الأساسية في الفلسفة الغربية!

س: ما هي الفروق الأساسية بين الإنسان وما تسميه الطبيعة/المادة؟

ج: يمكن القول: إن الظاهرة الطبيعية مكونة من عدد محدود من العناصر المادية يمكن حصر معظمها ورصدها، على عكس الظاهرة الإنسانية التي تدخل في تكوينها عناصر مادية ونفسية وتراثية وثقافية، ولذا فإننا إن درسنا ظاهرة طبيعية دراسة متعينة كان بوسعنا أن نحدد علة (أو علل) ظهورها على عكس الظاهرة الإنسانية التي يصعب حصر كل أسبابها. ويلاحظ أن الظواهر الطبيعية تطرد على غرار واحد بغير استثناء، أما الظاهرة الإنسانية فلا يمكن أن تطرد بالطريقة نفسها، فكل جماعة بشرية تختلف في كثير من النواحي عن الجماعات البشرية الأخرى، كما أن كل عضو في جماعة عادة ما يكون متفرداً في بعض النواحي عن بقية أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها، ولذا فإننا لا يمكن أن نحدد قانوناً اجتماعياً واحداً يتجاوز الزمان والمكان.

والظاهرة الطبيعية تتسم بأنها لا تملك إرادة حرة ولا وعياً ولا ذاكرة، وهي صفات من صميم إنسانية الإنسان. كما أن الظواهر الطبيعية لا تتأثر بالتجارب التي تجري عليها، أما الإنسان، إن أُخضع لتجربة معملية، فإنه سيتصرف بطريقة تختلف تماماً عن سلوكه العادي في حياته اليومية: فالإنسان يملك وعياً بنفسه وبما يدور حوله. ولعل هذا يجعلنا نأخذ موقفاً محايداً من الظاهرة الطبيعة، وهو أمر مستحيل في علاقتنا بالظاهرة الإنسانية. ويلاحظ أن معدل التحول في الظواهر الطبيعية يكاد يكون منعدماً ويتم وفق نظام كوني، أما معدل التحول في الظاهرة الإنسانية فهو أسرع بكثير، ولذا فإن الإنسان كائن له تاريخ، وهو تاريخ ثري متنوع. وينم مظهر الظاهرة الطبيعية عن مخبرها، فهي لا باطن لها (على الأقل حسب حدود إدراكنا الإنساني)، أما الإنسان فظاهره لا يشاكل باطنه.

لكل هذا يمكن دراسة الظاهرة الطبيعية بردها إلى عناصرها (الطبيعية/المادية) الأولية. أما الإنسان فلا يمكن رده إلى قانون عام ولا يمكن فهم كل جوانبه ولا تفسيره تفسيراً كاملاً، ولا يمكن رصده بطريقة نمطية اختزالية، بل لابد أن يظل باب الاجتهاد مفتوحاً بالنسبة إليه: إن عالم الإنسان عالم مركب، محفوف بالأسرار، أما عالم الطبيعة (والأشياء والمادة) فهو عالم أحادي بسيط إذا ما قيس بعالم الإنسان، ومن ثم فإننا نجد أن الحيز الإنساني مختلف عن الحيز الطبيعي المادي ومستقل عنه.

س: يبدو أن نظرتكم ورؤيتكم الوجودية والمعرفية للعالم وتركيزكم على ثنائية الإنسان والطبيعة، واختياركم نموذج المرجعية المتجاوزة والإنسان الرباني يؤدي إلى رفض الرؤية العلمية المادية الموضوعية الطبيعية، ورفض ما تطلقون عليه الإنسان الطبيعي أو البيولوجي أو المادي. وفي هذا -كما يرى بعض ناقديك- تقليل وتشويه لمفهومي المادية والعقلانية كما عُرِّفتا في تاريخ الفكر البشري!

ج: الفلسفة المادية هي المذهب الفلسفي الذي لا يقبل سوى المادة باعتبارها الشرط الوحيد للحياة (الطبيعية والبشرية)، ومن ثم، فهي ترفض الإله على أنه شرط من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه إن تجاوز النظام الطبيعي/المادي. ولذا، فالفلسفة المادية تَرُدُّ كل شيء في العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مبدأ مادي واحد. وإذا دخل عنصر آخر مادي على هذا المبدأ الواحد، فان هذه الفلسفة تصبح غير مادية.

والمادية ترى أسبقية المادة على الإنسان وكل نشاطاته، وتمنح العقل مكانة تالية على المادة. ولذا، فإنها ترى العقل باعتباره كياناً سلبياً ليست له فعالية، ووجوده ليس ضروريّاً لاستمرار حركة المادة في العالم. فنظرية المعرفة المادية (في مراحلها الأولى) تقر بإمكانية قيام المعرفة (فالعالم قابل لأن يُعرَّف لأنه معطى لإحساسنا ووعينا، بل إن مادية العالم هي شرط لمعرفته). ولمعرفة هذا العالم لا يحتاج الإنسان إلى استعارة وسائل من خارج عالم الطبيعة/المادة. والمادة -بحسب هذه الفلسفة- لا تسبق العقل وحسب، وإنما تسبق الأخلاق كذلك، ولذا، فإن الأخلاق تفسر تفسيراً مادياً ووفقاً لقانون طبيعي. فمنطق الحاجة الطبيعية المباشرة هو الذي يتحكم في الأخلاق الإنسانية، تماماً مثلما تتحكم الجاذبية في سقوط التفاحة. والشيء نفسه ينطبق على المعايير الجمالية، فالمشاعر والإحساس بالجمال وكل الأحاسيس الإنسانية يمكن فهمها بردها إلى المبدأ المادي الواحد، فهي مجرد تعبير عن شيء مادي يوجد في الواقع المادي. وأخيراً، المادة تسبق التاريخ كذلك، ولذا فكل تطور يتوقف على الظروف المادية والاقتصادية (على سبيل المثال: تطور أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج والمنفعة المادية الاقتصادية وقوانين العرض والطلب). ونوع الإنتاج في الحياة المادية شرط تطور الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية على العموم. فالبناء الفوقي (الفكري والعقلي والنفسي) يُردُّ في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى المادة، أو ما يسمى البناء التحتي.

والإنسان في هذا الإطار "إنسان طبيعي"، أي إن سقف وجوده ووعيه هو السقف الطبيعي المادي. ويتفرع عن هذا الإنسان الطبيعي الإنسان الاقتصادي، الذي يحركه ويحدد سلوكه حُب مراكمة الثروة أو علاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج. كما يتفرع عنه الإنسان الجسماني، الذي تدفعه غُدَدُه أو جهازه الهضمي أو العصبي أو التناسلي. إنه إنسان يُرَدُّ إلى ما هو غير إنساني. وأنا أذهب إلى أن هذه هي خطيئة المادية والعلمانية الشاملة، فهي لا تكتفي برد بعض أبعاد الإنسان إلى المادة، وإنما تصر على رد الإنسان في كليته إلى عالم الطبيعة/المادة، فتنزع القداسة عنه وتراه على أنه مادة محض.

الصفحات