أنت هنا

قراءة كتاب العلمانية والحداثة والعولمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العلمانية والحداثة والعولمة

العلمانية والحداثة والعولمة

كتاب " العلمانية والحداثة والعولمة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

س: ما وصفته هو المادية المتطرفة أو السوقية، ولكن ماذا عن المادية المعتدلة أو الجدلية، وثمة فرق بينها؟

ج: المادية المتطرفة أو السُّوقية تذهب -كما يرى البعض- إلى أن العالم الحقيقي هو مجرد مادة تتغير في أحوالها وعلاقاتها المادية، وأن كل ما هو إنساني مجرد حركة للمادة. أما المادية المعتدلة فتحاول الوصول إلى رؤية أكثر تركيباً. ومع هذا، فإن كلاً من هاتين الرؤيتين، السوقية المتطرفة والمادية الجدلية، تفترض، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، أسبقية المادة على كل الظواهر التي تُردُّ، بعد كل هذا التهويم، إلى المبدأ المادي الواحد.

ولابد من الاعتراف أن بعض أشكال المادية بلغت مؤخراً درجة عالية من الصَّقْل والتركيب، إذ يرى بعض الماديين أن الخلق قد تم بالمصادفة، ولكن من خلال عمليات مادية عديدة، فبعد أن ظهرت الأميبا أحادية الخلية ظهرت كائنات مكونة من خلايا مركبة أدت في نهاية الأمر إلى ظهور الإنسان، كائن أصله مادي، ولكنه أكثر تركيباً من المادة. بل إن بعض هؤلاء الماديين يقولون: إن ظهور الغرض والغاية في العالم تم هو الآخر من خلال عمليات تطورية مادية. ولذا، فهم يتحدثون عن "المادة رفيعة التنظيم"، و"ذاتية التنظيم"، و"الخلق الذاتي"، وكأن المادة المتحركة المتغيرة الصماء قد ولدت من داخلها وعياً وتنظيماً ذاتياً، وشكلاً ومعقولية ومعيارية!.

إن هؤلاء الذين يرون أن المادة (من خلال المصادفة وحدها أو أية عملية أخرى) قد أدت إلى ظهور عناصر متجاوزة للمادة مثل "الإنسان" و"الوعي" و"العقل" و"الغائية"، هم - في نهاية الأمر- ينسبون إلى المادة مقدرات غير مادية. ومن ثم، فإنهم يكونون قد خرجوا عن مقاصد الفلسفة المادية، خصوصاً أن فَرَضياتهم لا تخرج عن كونها تكهنات عنيدة طفولية، تضمن لهم الاستمرار في ماديتهم، وتضمن لهم في الوقت ذاته تفسير ما حولهم من تركيب ووعي وغائية! (ولعل هذا هو أحد أشكال محاولة الإنسان العلماني الوصول إلى ميتافيزيقا دون أعباء أخلاقية، فالإصرار على أسطورة الأصل المادي هو الذي يحميهم من المسؤولية الأخلاقية!).

س: كيف تقول بأن عالم الحواس عالم مفلس، مع أنه مليء بعديد من التفاصيل الثرية؟

ج: أولاً عالم الحواس هو عالم المادة الذي يقاس، ويتسم بأن له خواص مثل الكثافة والحركة والوزن والطول والعرض وهكذا. وهذه كلها صفات تستحق الاحترام، لكن لنتخيل أننا ندرك إنساناً من خلال هذه الخصائص وحسب، فمن المؤكد أن يكون هذا الإدراك اختزالياً ظالماً، ولا يعقل أن نحب شخصاً أو نكرهه على أساس الوزن والتحرك والكثافة وهكذا... ولذلك يجب علينا أن نصل إلى طريقة لإدراك أبعاد الإنسان الأخرى، ومن ثم يجب أن تتم عملية إدراك الإنسان بطريقة تختلف عن طريقة إدراكنا للنحل مثلاً. ومحاولات التنبؤ بسلوك الإنسان يجب أن تختلف عن محاولات التنبؤ بسلوك النحل. ففي حالة النحل مثلاً ثمة مثير واستجابة، فحينما يشم رائحة زهرة معينة نجده يتجه نحوها. ولكن الإنسان مختلف، والمسألة ليست مثيراً واستجابة وإنما ثمة مثير، وثمة عالم الرمز والوسائط ثم عالم الاستجابة. ولنأخذ مثلاً بسيطاً. رائحة طعام ما قد تكون جيدة ومحببة عند شخص ما، في حين تكون مقيتة عند شخص آخر، ويمكن أن تكون محببة لشخص ما في مرحلة من حياته، ومقيتة في مرحلة أخرى، فما بالك إذا كان الأمر متعلقاً بالوطن والأرض. وهذا يساعدنا على فهم الصهاينة الذين يتصورون أن الوطن عقار قابل للبيع والشراء فيخلطون بين الأوطان والعقارات، وبالنسبة إليهم الأرض شيء يمكن بيعه وشراؤه، وكأننا في السوق، أما الذاكرة التاريخية والارتباط بالأرض فأمور لا أهمية لها في تصورهم، من هذا المنظور يمكنني القول: إن الفكر الصهيوني، بسبب أن إدراكه محصور بالحواس الخمس وبما يقاس، فكر مفلس تماماً يخفق في إدراك الفلسطينيين العرب وسلوكهم، وأعتقد أن الشيء نفسه ينطبق على النخبة الحاكمة الأمريكية في رصدها للعالم العربي والإسلامي.

س: ما هو موقفكم من العقلانية؟

ج: عادة ما أفصل بين العقلانية والمادية. فالعقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة من خلال قنوات إدراكية مختلفة، من بينها الحسابات الكمية الصارمة والحواس الخمس، كما أن من بينها أيضاً الخيال والعاطفة والحدس والإلهام. بمعنى أن العقل حينما يواجه الواقع فإنه يواجه واقعاً قد يكون مادياً بسيطاً، ولكنه قد يواجه حقيقة إنسانية مركبة، بل وأحياناً حقائق تشكل انقطاعاً في النظام الطبيعي أو النسق التاريخي. ولذا، فإن على العقل ألا يواجه الواقع بصيغة جاهزة بسيطة، وعليه أن يدرك المعلوم، وألا يرفض وجود المجهول، وإلا أصبح آلية لاختزال الواقع وتسويته، بدلاً من أن يكون أداة لرصده وتحليله وتفسيره.

س: لكنك تربط بين العقل والمادة في مصطلحات مثل "العقل المادي" و"العقلانية المادية"، هل لك أن توضح لنا مضمون هذه المصطلحات؟

ج: هناك من يرى أن العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة بمفرده دون مساعدة من عاطفة أو إلهام، وأن الحقيقة هي الحقيقة المادية المصمتة المحضة التي يتلقاها العقل من خلال الحواس وحدها، وبأن العقل يوجد داخل حيز التجربة المادية محدوداً بحدودها، فيعيد إنتاج الواقع محكوماً بمقولات الطبيعة/المادة، فيرصد الواقع باعتباره كماً وأرقاماً وسطحاً خالياً من الأسرار والتفاصيل المتناثرة. هذا هو العقل الذي يسقط في الأداتية أو الإجرائية، فهو عقل غير قادر على تجاوز الحدود المادية، وهو لا يفرق بين الظواهر المادية البسيطة والظواهر الإنسانية المركبة. وهو عقل مادي يسوِّى بين الأشياء، ويمحو إحدى الثنائيات الأساسية في الكون: ثنائية الإنسان والأشياء، وبذلك يصبح العقل المادي أداة المادة في الهجوم على الإنسان، بدلاً من أن يكون علامة انفصاله عنها.

إن العقل المادي هو العقل الذي يوجد داخل حيز التجربة المادية لا يمكنه تجاوزها، يسري عليه ما يسري على الطبيعة من قوانين، فهو أداة الطبيعة، يمكنه تسييرها بمقدار ما يمكنه الالتحام بها والإذعان لها. وهو عقل محايد لا علاقة له بالأخلاق أو بالأسئلة الكلية (الخاصة بالغرض من وجود الإنسان في الكون)، أو بالمقدس أو بما يتجاوز عالم الحواس الخمس المباشر، فهو موصل جيد لما يدخله من معلومات ومعطيات لا يمكنه أن يتجاوزها، ولذا فهو لا يفرز سوى ما يمكن تسميته "أخلاق الصيرورة" أو "منطق الأمر الواقع" أو "موازين القوة". لأن العقل المادي لا يتعرف إلا على الحقائق المادية (ثمنها- حجمها- كثافتها) أي صفاتها المادية، ولكنه لا يعرف قيمتها، فالقيمة شيء متجاوز لعالم المادة وهو قادر على إدراك "ما هو قائم" وليس "ما ينبغي أن يكون"، لأن "ما ينبغي أن يكون" ينتمي إلى عالم غير العالم المادي المحسوس. بل إن العقل المادي معاد للتاريخ، لأن التاريخ بنية غير طبيعية غير مادية تتسم بالتنوع والتركيب والإبهام لا يمكن لهذا العقل أن يتعامل معها بكفاءة فهو يجيد التعامل مع الأرقام والكم والكثافة والحجم والوزن. ولذا العقل المادي حين يتعامل مع التاريخ يحاول أن يدخله الحيز المادي، فيتحدث عن "الحتمية التاريخية" وكأنها حتمية بيولوجية مادية. إن العقل المادي يتجه نحو اختزال الواقع المركب وإلى قوانين عامة تؤكد التماثل والعمومية، ولكنه في الوقت ذاته بسبب التصاقه بعالم الحواس يسقط في التفاصيل، فكأنه يتأرجح بعنف بين العام، الموغل في العمومية، والخاص الموغل في الخصوصية. فهو عقل يشبه أشعة إكس من ناحية، يمكنها أن تعطينا صورة لهيكل الإنسان العظمي، لكنها لا يمكنها أن تنقل لنا صورة الوجه الإنساني في أحزانه وأفراحه. ومن ناحية أخرى، يشبه «الميكروسكوب» الذي يعطينا أدق تفاصيل الخلية دون أن يمكنه أن ينقل لنا الصورة الكلية لهذا العالم. وقد خلصت من كل هذا إلى أن العقل المادي عقل عنصري إمبريالي؛ لأنه يسقط مفهوم الإنسانية المشتركة (فهو مفهوم كلي نهائي مركب لا يمكن قياسه) ولا يجيد إلا اختزال الواقع بهدف توظيفه. هذا العقل هو الكامن وراء مفهوم العقلانية الغربية، ومن هنا تسميتي لها بالعقلانية المادية، وهو الذي يؤدي إلى إعادة صياغة العالم الغربي بل والعالم بأسره في الإطار المادي.

الصفحات