يُعدّ كتاب "هكذا تكلم زرادشت" أ
أنت هنا
قراءة كتاب هكذا تكلم زرادشت - للمجتمع لا للفرد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
ولم يكن نيتشه فيلسوفا وكاتبا فقط، فقد كان أيضا شاعرا وأديبا ناثرا لا يضاهى ومتفوقا على أرباب الأدب الجرماني بكتاباته، ولعل ذلك يتجلى بكتابه الذي نحن بصدده، والذي يرى بعض المؤرخين أنه تفوق بقوة سبكه وجزالة لغته على جهابذة الأدب الجرماني، حتى انه قال «أعتقد أن اللغة الألمانية قد وصلت مع هذا الزرادشت إلى أوج اكتمالها. حيث لا يستطيع لا (لوثر) ولا (غوته) أن يتقدما خطوة ثالثة»، ومن المعروف أن غوته ولوثر هما من جهابذة الأدب الجرماني.
ادعى نيتشه بكتابه «إنساني، إنساني أكثر من اللزوم» أن البشر بحاجة إلى تبجيل وتمجيد شخصيات معينة ومعتقدات معينة اعتبرها فوق البشر والبشرية، وهي طبقية واضحة وتقسيم واضح للبشر إلى بشر وآلهة بشرية ويبدو ذلك واضحا أكثر عند قراءة كتب نيتشه ووصفه للإنسان الخارق، ومن ذلك استمد أبو فلسفة الهيمنة الأمريكية على العالم ليو شتراوس فكره حول تأليه الفلاسفة، ويتضح ذلك عمليا بعد موت نيتشه حيث يقال إن كتابه «هكذا تكلم زرادشت» كان يقرأ من قبل الشبيبة الألمانية وكأنه الإنجيل!
قام نيتشه بنقض القيم السائدة، أو ما أطلق عليه (إعادة تقييم القيم). وفي الكتاب الرابع يدرس تنظيم المراتب ويبشر بالإنسان الأعلى.
ومن الواضح أن ما ينادي به نيتشه هو تأليه للعقل وبالتالي تأليه لحامل هذا العقل، ربما كان ذلك بسبب عدم إدراكه لوجود خالق واحد لهذا الكون ونقمته الشديدة على الكنيسة.
يقول منصور الجمري في دراسات في الفكر السياسي الأوروبي: «ومن أهم فلاسفة الغرب فردريك نيتشه (1844-1900) الذي أعلن إلحاده ورفضه كل فلسفة تقول بالقيم المطلقة.
واستمر فكر نيتشه مسيطرا على أفكار الكثير من الأوروبيين مثل سارتر (1905-1980) الذين يؤمنون بالفلسفة الوجودية (بأن كل شيء ليس له فائدة فورية أو آنية أو ملموسة في الحياة فهو ليس حقيقة).
(لقد عاش نيتشه ومات دون أن يصدر عنه مقال واحد، ثم بعدئذ انفجرت شهرته كالقنبلة الموقوتة، وبالتالي فلا ينبغي أن توهمنا أو تخدعنا شهرته هذه. نيتشه عاش ومات دون أن يعرف أنه نيتشه، لقد حصل له بشكل من الأشكال ما حصل لرامبو، رامبو أيضاً مات دون أن يعرف أنه رامبو).
هكذا يقول اليكسيس فيلونينكو الذي يعتبر أحد كبار مؤرخي الفلسفة في فرنسا، لكن ليس معروفاً عنه أنه يهتم بشخص مثل نيتشه، وإنما هو بالأحرى في جهة كانط وفيخته وبقية «العقلانيين» إذا جاز التعبير. وقد كرس لهم كتباً مهمة، أصبحت مراجع لكل الباحثين. فما الذي حدث لكي يهتم بنيتشه، الخصم اللدود لكانط وهيغل؟
لنستمع إليه وهو يقول: «كان كانط هو الأكثر عقلانية ومنطقية بين الفلاسفة. وقد صعد، مرحلة فمرحلة، الدرجات التي أوصلته في النهاية إلى قمة نظامه الفلسفي. لقد صعدها بتؤدة وبطء كما يفعل الحلزون أو السلحفاة. ولم يضرب ضربته الكبرى الأولى، أو قل لم يقدر عليها، إلا بعد أن شارف على الستين. فقصد بذلك «نقد العقل الخالص» بالطبع. وهو أحد أهم كتب الفلسفة وأكثرها صعوبة واستعصاء على الفهم، ثم عاش بعد ذلك وكتب حتى تجاوز الثمانين. أما نيتشه فكان أن وضع اللمسات الأخيرة على نظامه الفلسفي، ولمّا يتجاوز الأربعين إلا قليلا!.. لقد صبّ كل ما عنده دفعة واحدة، أو قل انه انفجر به كما ينفجر البركان بالحمم. وفي الأربعين من عمره كان قد أوصل رسالته الأساسية إلى البشرية. وهذا الحدث ينطوي على عبقرية مشتعلة قلّ نظيرها في تاريخ الغرب، وإذا ما بحثنا عن شبيه له في الماضي لم نجد إلا المفكر الفرنسي «باسكال» الذي لم يعش أكثر من تسعة وثلاثين عاما. ومع ذلك، فلا يزال يشغل الناس حتى هذه اللحظة، ولكن ما أشد الفرق بينهما! فباسكال كان فيلسوفاً محترفاً وعالماً دقيقاً وصارماً، أما نيتشه فيعتبر دخيلاً على الفلسفة، لقد جاءها من جهة الأدب. في الواقع أن نيتشه كان شاعراً، ومن أعظم الشعراء..».
لقد استشهدنا بكلام فيلونينكو لكي نوضح كيف ينظر شخص كانطي إلى فيلسوف من نوعية نيتشه. ودائماً رأي الخصوم مهم، وأحياناً أهم من رأي الأصدقاء. ويعتقد فيلونينكو أن نيتشه يقدم جمال العبارة على دقة المعنى، لأنه شاعر بالدرجة الأولى، قبل أن يكون فيلسوفاً. ثم انه يشطح أحياناً شطحات سريالية بعيدة وبخاصة في كتابه الشهير الذي نحن بصدده «هكذا تكلم زرادشت». إنه يوغل بعيداً إلى درجة أن التواصل معه ينقطع، والفهم يستحيل. فهناك مقاطع في هذا الكتاب لا يستطيع أحد أن يشرحها. ثم يعيب فيلونينكو على نيتشه جهله بالرياضيات والتقدم التكنولوجي في عصره. ولذا، فإن رؤيته للعالم هي رؤية سيكولوجية وأخلاقية أساساً. وذلك على عكس كانط وفيخته ومعظم الفلاسفة منذ ما قبل سقراط وحتى اليوم. فهؤلاء اهتموا بالنظريات العلمية التي كانت سائدة في عصرهم وبنوا عليها فلسفتهم. ولذلك، قال أحدهم: لولا نيوتن لما كان كانط!. ولكن يبدو أن نيتشه كان يتفلسف من موقع آخر لا علاقة له بالرياضيات أو بالتكنولوجيا.
يضاف إلى ذلك، أن نيتشه كان مريضاً، فقيراً، شارداً، أو متشرداً على الطرقات والدروب. لا منزل ثابتا له، ولا بيت دافئا، ولا زوجة ودودة، ولا صديق ولا أنيس.. لا شيء أبداً.. لا أحد.. وحدة مقفرة، شاسعة واسعة، مترامية الأطراف. وحدة يكاد يسمع فيها أزيز الصمت يلفـّه من كل الجهات. والأكثر من ذلك، هو أنه لم يكن يرى أمامه إلى أبعد من ثلاث خطوات.
لكن لنستمع إليه هو شخصياً يصور حالته: «إن وجودي عبء ساحق لا يُحتمل، لا استطيع أن أقرأ! ونادراً ما استطيع أن أكتب! ولا استطيع أن أتواصل مع أي شخص على وجه الأرض! ولا استطيع أن أسمع أي موسيقى! أن تكون وحيداً، وتمشي..».
في ظل هذه الظروف الصقيعية المرعبة، كتب نيتشه مؤلفاته الخالدة. ولم تمنعه هذه الظروف من أن يصبح أعظم كاتب في اللغة الألمانية، إذا ما استثنينا لوثر، مؤسس البروتستانتية، وغوته.. فقد كان يعتقد أنه، مثلهما، سوف يقطع باللغة الألمانية مسافة جديدة ويعوّدها على أن تقول ما لم تستطع قوله سابقاً.
لا يستطيع أحد أن يسلم من جاذبية نيتشه أو سحر أسلوبه إذا ما صبر على قراءته ولو قليلاً. لكننا لا نتفق مع فيلونينكو على القول بأنه كان يضحي بدقة المعنى لصالح بلاغة العبارة. فنيتشه من الكتاب القلائل في التاريخ الذين يستطيعون أن يجمعوا في ضربة واحدة بين عمق المعنى وجمال العبارة، لنستمع إليه يتحدث عن كتابه «هكذا تكلم زرادشت»:
«من بين مؤلفاتي كلها، يحتلّ هذا الكتاب مكانة خاصة. عندما قدمته للبشرية أعطيتها أكبر هدية يمكن أن تتلقاها. إن هذا الكتاب الذي يخترق صوته أعماق القرون المقبلة ليس فقط أعلى كتاب وجد حتى الآن، الكتاب الحقيقي الذي يليق بهواء القمم والأعالي. وإنما هو أعمق كتاب انبثق من كنوز الحقيقة الدفينة الأكثر سرية. كل الظواهر البشرية تنحطّ عن علوّه الشامخ أو تقع على مسافات لا نهائية تحته.. إنه بئر عميقة لا تُستنفد، وكل سطل ينزل إليها لا يمكن أن يخرج إلا وهو مليء بالذهب المصفّى والطيبة الإنسانية..».
ربما قال بعضهم: ولكن لا يحق لأحد أن يفتخر بنفسه على هذا النحو، وإنما ينبغي أن يترك هذه المهمة للآخرين، وهذا صحيح عموماً، ولكن ربما كان يحق لنيتشه ما لا يحق للآخرين لعدة أسباب. أولها أنه نيتشه، وثانيها أن أحداً لم يهتم به في حياته. وكل كتبه، أو معظمها، طبعها على نفقته الخاصة ولم تثر أي تعليق أو أي اهتمام تقريباً. لقد عاش على رصيده الخاص بـ «نيتشه»، أي على ثقته بنفسه ومعرفته لقدره وأهميته، ولو أنه أعطى وزناً لاهتمام الناس به، أو بالأحرى لعدم اهتمامهم، لتخلّى عن الكتابة ولما ألف ربع ما ألفه.
من هو الكاتب الذي يستطيع أن يقاوم هذا الصمت المطبق عليه من كل النواحي ويستمر في عملية الكتابة دون أن يتلقى أي صدى؟!. حتى كتّاب الدرجة الثانية أو الثالثة، تصدر عنهم مقالات عديدة في الصحف والمجلات، هذا إذا لم يتحفونا بمقابلات طنانة رنانة هنا أو هناك.
أما نيتشه، فهو شخص غير موجود على الإطلاق! لقد عاش ومات دون أن يصدر عنه مقال واحد، ثم بعدئذ انفجرت شهرته كالقنبلة الموقوتة. وبالتالي فلا ينبغي أن توهمنا شهرته هذه أو تخدعنا. نيتشه عاش ومات دون أن يعرف أنه نيتشه!.. نقصد دون أن يستمتع بهذه الشهرة الأسطورية التي سينالها لاحقاً، بعد موته، أو حتى بعد جنونه بسنوات قليلة..
عندما ابتدأ نيتشه يدخل في غياهب الجنون الكامل، أخذت شهرته تصعد رويداً رويداً حتى غطّت على ألمانيا كلها.. وبالفعل فقد أصبح كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إنجيل الشبيبة الألمانية في فترة ما.
وهكذا صدقت نبوءته: هناك أناس يولدون بعد موتهم!.. عندما سيعرف الناس من أنا، لن أكون هنا.. لقد حصل له بشكل من الأشكال ما حصل لرامبو الذي كان معاصراً له من الناحية الزمنية، رامبو أيضاً مات دون أن يعرف أنه رامبو.
من يقرأ هذه الصفحات يعتقد بأننا من أنصار نيتشه بشكل غير مشروط. وفي الواقع فإننا نخاف منه، أو من بعض أفكاره المتطرفة، وهناك أشياء كثيرة لا نوافق عليها، ولكن لا نستطيع أن نقاوم جاذبية أسلوبه. بالطبع إذا ما خيرنا بينه وبين جان جاك روسو، فإننا اختار روسو فوراً وبدون أي تردد. ولكننا ضعفاء أمام العبقرية الشعرية لنيتشه، ضعفاء وبلا مقاومة تقريباً.
لنستمع إلى هذا المقطع من سيرته الذاتية التي كتبها قبل جنونه بأشهر قليلة أو ربما بأسابيع: «في هذا اليوم المكتمل، حيث كل شيء ينضج ويكتمل، وحيث العنقود ليس وحده هو الذي ينضج ويتذهّب. في هذا اليوم سقط شعاع من الشمس على حياتي.. نظرت إلى ورائي، ونظرت إلى أمامي، فلم أر أشياء في مثل هذه الكثرة والطيبة.. ليس عبثاً أني دفنت اليوم سنتي الرابعة والأربعين، ويحق لي أن أدفنها. فما كان فيها حياة أصبح الآن مُنقذاً، أبدياً. «قَلْب كل القيم»، «بتبجيل ديونيسوس»، «من أجل تسليتي»، «شيخوخة الأصنام» كل هذه الكتابات هي من هدايا هذه السنة، بل وحتى من فصلها الأخير فقط! كيف يمكن ألا أشعر بالامتنان تجاه حياتي كلها؟ ولهذا السبب فإني أروي هنا قصة حياتي».
عندما كتب نيتشه هذا الكلام، لم يكن يعرف أنه على شفا الانهيار، أن أيام الصحو أصبحت معدودة.. ولهذا السبب رأى فيه النقاد بعض أمارات الجنون، وبخاصة عندما يمدح نفسه بطريقة مسرفة، أو عندما يهجو أمه وأخته.