أنت هنا

قراءة كتاب النص الغائب في ( أولاد حارتنا ) لنجيب محفوظ دراسة في تفاعل النصوص

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
النص الغائب في ( أولاد حارتنا ) لنجيب محفوظ دراسة في تفاعل النصوص

النص الغائب في ( أولاد حارتنا ) لنجيب محفوظ دراسة في تفاعل النصوص

كتاب " النص الغائب في ( أولاد حارتنا ) لنجيب محفوظ دراسة في تفاعل النصوص " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

ويكمن السبب الثاني في أنّها الرواية الوحيدة التي أثارت من الضجيج، والمعارك الفكرية بما لم تثره رواية أخرى لمحفوظ ابتداء من طبعها كاملة للمرة الأولى خارج مصر(16)، وانتهاء بالاعتداء الشخصيالواقععلى محفوظ بسبب هذه الرواية(17)، فمن المعلوم أنَّ محفوظ بدأ بنشرها منجّمة في (الأهرام) من 21/9/1959، وحتى 25/12/1959(18)، ثم رافق ذلك النشر لغط نجد تفاصيله عندرجاءالنقاش(19)ممّا أدّى إلى منع نشرها داخل مصر، ونجد محفوظ نفسه يقول: ربّما تكون أولاد حارتنا أكثر رواياتي إثارة للأزمات، والجدل، وهذا الأمر لا يتّفق مع حسن النية الذي كان وراءكتابتيلهذهالرواية(20)، ويقول أيضاً: إلى جانب تلك المتاعب التي سبّبتها لي رواية أولاد حارتنا من صدام مع الأزهر، ومجمع البحوث الإسلامية، وفتاوى التكفير كنت أتلقّى أحياناً رسائل مليئة بالشتائم،وبأقذع الألفاظ، ولكنّها لم تصل إلى حدّ التهديد بالقتل(21)، وما سبق يشير إلى أنَّ أوساطاً كثيرة، وجهات مختلفة اشتركت في الحديث عن الرواية بعلم قليل، وضباب كثير، ولعلَّ الجمهرة الواسعة من الذين وقفوا في مواجهة الرواية لم يكونوا قد قرأوها أصلاً، ناهيك عن فهمها، والتمكّن من تحليلها، ولهذا الأمر تاريخ معرق في الثقافة العربية في العصر الحديث، أعني اتخاذ موقف معادٍ من مفكّر، أو أديب، أو كتاب بلا قراءة له، ونعني بالقراءة هنا مجرّد الإطلاع على الكتاب ذي الموضوع المشكل، وبكلمة أخرى لا نريد بالقراءة ذلك المصطلح الشائع اليوم في الدرس النقدي الحديث، وله قوانينه، ومتخصّصوه، فهذا أمر بعيد المنال، ولا يتسع المقام هنا للإفاضة في هذا الموضوع، ويكفي أن نشير إلى كتاب د· صادق جلال العظم (ذهنية التحريم)(22)الذي تعقّب في قسم منه قضية سلمان رشدي وكتابه (الآيات الشيطانية)، أقول يكفي هذا الكتاب ليبيّن بجلاء أنَّ قسماً كبيراً من الذين كتبوا عن هذا الكتاب - الرواية لم تقترب منه البتّة، ولذلك يتملّكنا العجب من فتوى الشيخ عمر عبد الرحمن الذي قال في حديث صحفي نشرته له جريدة الأنباء الكويتية: إنّنا لو كنّا قتلنا نجيب محفوظ عندما نشر رواية أولاد حارتنا ما ظهر إلى الوجود سلمان رشدي(23)، وكأنّه يوهمنا أنّه (قرأ) سلمان رشدي (قراءة) خبير يحقّ له الحكم عليه، وكأنّه مرة أخرى يظنّ أنَّ بروز أديب، أو اختفاءه مرهون بتكميم الأفواه، وعصب العيون، وسفك الدماء أخيراً· والمهم في ذلك كلّه أنَّ (أولاد حارتنا) كانت أشبه بالعلامة الفارقة بين روايات محفوظ، ولم يكن لها أن تحتلّ تلك المكانة لولا فضاؤها الواسع، وخصوبة ما تطرحه، وهو ما يقبل الآراء المتنوعة، بل المتصادمة كما رأينا·

ويتمثّل السبب الثالث، وهو ما نعتقد أنّه أهمّ الأسباب، وذلك لاتصاله الحميم بهذه الدراسة، أقول يتمثّل السبب الثالث في صمت محفوظ العميق قبل كتابة هذه الرواية بسنوات لا تقلّ عن خمس، وربّما وصلت إلى سبع سنوات، إذ لم ينشر محفوظ خلالها شيئاً أبداً، فمنذ أن أصدر الثلاثية كاملة ابتداءً من سنة 1948م وحتى 1952، اعتزل النشر(24)، فهو نفسه يقول: ··· وحينما ذهب المجتمع القديم ذهبت معه كلّ رغبة في نفسي لنقده، وظننت أنّني انتهيت أدبياً، ولم يعد لديّ ما أقوله، أو أكتبه، وظللت على هذه الحال من سنة 1952 حتى سنة 1957 لم أكتب كلمة واحدة، ولم تنبعث في نفسي رغبة في الكتابة، وكنت أعتبر المسألةمنتهيةتماماً حتى وجدتني أكتب أولاد حارتنا، وأنشرها سنة 1959(25)، ويضيف قائلاً: في عام 1957م شعرت بدبيب غريب يسري في أوصالي، ووجدت نفسي منجذباً مرة أخرى نحو الأدب، وكانتفرحتيغامرة عندما أمسكت بالقلم مرة أخرى··· وكانت كلّ الأفكار المسيطرة عليّ في ذلك الوقت تميل ناحية الدين، والتصوف، والفلسفة، فجاءت فكرة رواية أولاد حارتنا(26)، فكأنَّ (فترة) الصمت، والابتعاد عن الكتابة لم تكن لتقلّ عن خمس سنوات، فماذا كان محفوظ يصنع فيها، وهو الذي ثابر على الكتابة والنشر ممّا هو معروف عنه؟ حاول بعض الباحثين تقديم أسباب لذلك الصمت، بل رأينا محفوظ نفسه - كما تقدّم - يعزو الأمر إلى انعدام الرغبة في الكتابة بعد تقوّض المجتمع القديم، فلم يعد هناك ما يكتب عنه على حدّ قوله· تقف د· فاطمة الزهراء عند هذه النقطة المفصلية، وتنقل عن فريق من النقاد رأيهم في أنَّ محفوظ كاتب قدّم كلّ ما عنده حتى أصبح لا يجد جديداً يمكن أن يضيفه، ومن ثمّ آثر الامتناع عن الكتابة(27)، أمّا الفريق الآخر فيرى أنَّ محفوظ يجهد في البحث عن شكل جديد في التعبير، وهذا الرأي - تعلّق الباحثة -غيرمرفوض بدليل أنَّ المرحلة الثالثة من أدبه تثبت أنّه جهد للبحث عن شكل جديد(28)، وهناك فريق ثالث يعتقد أنّه وجد في الثورة تحقيقاً لكلّ آماله، ومن ثمّ فهو لا يعرف عمّا يكتب بعد أن تخلّص مجتمعه منمشكلاته التي اهتمّ بعرضها منذ بدأ الكتابة الروائية(29)، وتتبنّى الباحثة رأياً يفسّر ذلك الصمت، هو إنَّ صمته كان مراقبة لتجربة الثورة، وعملية شحذ لقلمه ليخرج بمضمون جديد يعبّر عن حركة التغيير فيالبيئة التي كان يستقي منها مادته(30)وأعتقد أنّ تلك الآراء - على وجاهتها - لم تستطع التوصّل إلى المكمن الجوهري لذلك الصمت الذي من الممكن تلخيص أسبابه بكلمتين هما التهيؤ والتأمل، ذلك أنَّ البحث عن شكل جديد، أو انتظار ما تسفر عنه الأحداث الجديدة، أو حتى انعدام الرغبة كما يقول محفوظ نفسه، أقول إنَّ تلك التبريرات ما كان لها أن تثني محفوظ عن الكتابة، فليس الشكل الجديد بمعجزه، وليس الانتظار من سمات الأديب الحقّ ذي الرؤيا الواضحة، والنظرة المستقبلية، وممّا يؤكد هذا أنَّ الكتابة عند محفوظ أقرب إلى أن تكون (صنعة) كما يصرّح هو بنفسه، بحسبان أنّه يكتب في وقت معين، ويترك الكتابة في وقت معين آخر ليستأنفها في اليوم القابل بلا مفاجآت، أو إشكالات نفسية، أو إبداعية، وقد مرَّ سؤال فيما سبق، وهو ماذا كان يصنع محفوظ في (سنوات الصمت) تلك ؟ ولعلّي أفزع هنا إلى نيتشه الذي أراه يكتب: كلّ مَنْ قُدِّر له أن يذيع شيئاً جليلاً في يوم من الأيام، لابدَّ له أن يظلّ وقتاً طويلاً مطويّاً في داخل صمته، وكلّ مَنْ قُدّر له أن يشعـل البرق يوماً مـا، لابدّ أن يظلّ سحاباً مدة طويلة(31)، نعم، لقد ظلّ محفوظ مطويّاً داخل الصمت مدة طويلة، وبقي سحاباً ينتظر التفجّر مدى ليس بالقصير، غير أنّه بعد أن طوى تلك المرحلة التي اختصرناها بكلمتين هما التهيؤ والتأمل، وهذا يعني أنَّ محفوظ قرّر أن يأتي بشيء مختلف تماماً عمّا كتبه سابقاً، وهو كما وقر في نفسه إزاء عمل جديد غير أنّه ضخم متّسع، محتاج إلى أدوات، وكدّ للذهن، ولم تكن تلك الأدوات جميعها في متناول يده، فعمد إلى تحصيلها، فاء أولاً إلى مخزونه الفلسفي الذي تلقّاه طالباً في الجامعة، وعمّقه، ووسّع من آفاقه من خلال قراءاته الواسعة في الفلسفة، وتاريخها، وأعلامها، ثمّ انتهى إلى التاريخ، التاريخ العام، وتاريخ الأديان خصوصاً فاغترف منه ما شاء له الاغتراف، ودعم ذلك كلّه بالجديد من الأفكار، والتيارات، ولا ننسى أنّه سليل رواد التنوير في مصر أمثال فرح أنطون (1874 - 1922)، وشبلي شميل (1853 - 1917)، ويعقوب صروف (1852 - 1927)، ولطفي السيد(1872 -1963)، ولكلّ واحد من هؤلاء أثر بالغ عليه محتاج إلى بحث منفصل، أمّا سلامة موسى(32)(1887 - 1958) فقد كان الباقعة بينهم من حيث تأثيره عليه، فقد كان ذلك التأثير كبيراً في جيلنا، ولقد أضاءت كتبه، ومؤلفاته الطريق أمامنا نحو الحياة الحديثة، والأفكار المعاصرة، فمن خلاله عرفنا معنى الفابية، والاشتراكية، وحرية الفكر، وكلّ المصطلحات الغربية الجديدة بالنسبة لنـا ··· واستمرت علاقتـي مع سلامة موسى ··· وما يزال تأثيـره حيّاً في نفسي(33)، على حدّ قول محفوظ نفسه، وقد نقل سلامة موسى في كتبه، وأحاديثه، ومقالاته أفكار أولئك الرواد الذين تأثر بهم هو الآخر، وتبنّى بعض آرائهم، وقدّم أخرى من خلال قناعاته الفكرية التي من الممكن تلخيصها بقوله: إنَّ في العالم روحاً جديدة: حرية الفكر، النزعة العلمانية، الحركة الاشتراكية، الاستضاءة بالتطور، غايتها الانطلاق من قيود التقاليد بوضع التجارب فوق العقائد، وتحسين نسل الإنسان··· وذلك بإزالة جميع العراقيل التي تعترض ذلك(34)، وقد احتشد محفوظ لنهل ذلك الفكر (الجديد)، وتسرّبت بذوره إلى فكره، وبعد هذا إبداعه بحيث أصبح معالم فيه لا تخطؤها العين، يكتب محفوظ سنة 1972: ولعلَّ الاضطراب الناشيء من قراءة أدبي أحياناً مصدره أنَّ قلبي يجمع بين التطلّع لله، والإيمان بالعِلم، والإيثار للاشتراكية، ومحاولة الجمع بين الله، والاشتراكية مثارللظنّبالإلحاد عند قوم، وبالمحافظة عند آخرين(35)، فما نثره سلامة موسى وهو مثقل بالفكر، والأدب الغربيَّين، ومعه أولئك الرواد، أقول ما نثره سلامة موسى في كتبه تلقّاه محفوظ بوعي، وإحساس عاليين، واستضافه بعد هذا في إبداعه ولكن في صورة مغايرة تتناسب مع ذلك الإبداع· إنَّ ذلك الذي تقدّم محتاج إلى وقت طويل للفهم، والاستيعاب، ولو توقفت القضية عند (القراءة) وحدها لهان الأمر، بل تأتي المرحلة الثانية، وهي كالأولى صعبة عسيرة، إن لم تكن أصعب، ونريد بها التأمل، وأقلّ ما يقال في التأمل هو السعي للخروج من عنق الزجاجة، وذلك من خلال اعتماد الكاتب آلية انتخاب ما يراه ضرورياً لعمله، ويسبق ذلك الانتخاب عمليات معقّدة من الأخذ، والترك، والتمثّل، بحيث يخرج بعد هذه السلسلة من العمليات ذاتاً أخرى، هي ذاته هو، وفرادته هو، وخصوصيته هو، وهنا مكمن الأصالة، فالأصالة أو شهوة الأصالة على حدّ قول بول فاليري هي أمّ الاقتباسات كلّها، وأمّ المحاكاة، لا شيء أكثر أصالة، لا شيء هو ذاتك أكثر من أن تتغذّى ذاتك من الآخرين، لكن يجب هضمهم(36)، ويقول محفوظ ما يقترب من هذا، وهو: يخيّل إليّ أنَّالثقافة الحقّة كالغذاء يتمثّله الجسم، ويستفيد منه، وإن لم يبق له أثر واضح فيه(37)، وهذا هو الذي اصطنعه محفوظ، ولم يكن له من خيار سواه، الامتلاء المعرفي أولاً، ثم الاختيار، والتسرّب، فالحوار لينفتح ذلك الامتلاء المعرفي بعد هذا - ثانياً - على آفاق دلالية جديدة تكون ملكاً لمحفوظ وحده تشير إلى شخصيته المستقلّة عن الغير·

تلك هي الأسباب الثلاثة التي جعلت من (أولاد حارتنا) علامة متميزة في مسيرة محفوظ الإبداعية، ولعلَّ الطريق أصبح ميسّراً إلى حدّ ما للدخول إلى فضاء تلك الرواية في محاولة للبدء بعملية (الحفر) في بناء النّص لعلّنا نصل إلى شيء من طبقاته المستترة التي تراكمت عليها طبقات أخرى كثيفة من تلاوين التعبير الشخصي، والرؤيا الخاصة، وهو ممّا يضفي على الأمر برمّته صعوبات شتى(38)، غير أنَّ (النص الغائب) يظلّ ثاوياً مستقراً في الأعماق ينتظر مَنْ يزيح عنه ما تراكم عليه من تبر (الأصالة) و(رحيق) الانتقاء·

الصفحات