You are here

قراءة كتاب صمت يتمدد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صمت يتمدد

صمت يتمدد

كتاب " صمت يتمدد " ، تأليف سليمان الشطي ، والذي صدر عن دار المؤسسة للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

هذا زمن السياسة··

عرفت يحيى في هذه المدينة التي لا تعرف التثاؤب، كان كل شيء مندفعا يمور بحركة، لا تستطيع أن تتجاهل ما يدور من حولك، فيها تحدد موقعك ؛ إما أن تصبح ثوريا فتندفع عاطفتك وتحتشد الدماء داخل العروق، أو أن تُصنّف رجعيا تتمزق بين عواطف شتى أو تحزم حقائبك وترحل· لن تجد من يستمع إليك، لا تفكر، نفعني هذا فيما بعد، ولكنني أسمع كثيرا، أنطق فكل الأصوات من حولي تهدر فلماذا الصمت، أذنك ولسانك وذراعك المشدودتان هي عدتك لتنسجم مع من وما حولك، أو تنسحب تتأمل دون تعليق، قال لي أحدهم: الطريق من حولك انفتاح على ضجيج الجدل الحماسي أو اللامبالاة· الطريق الجبري والأحلام المعلقة تتدلى عليك، فتسير تحت عروش العنب فتجني قطفة عذبة أو تجني حصرما أو خمرًا يدير الرأس·· إنه زمن السياسة·

نفذت إليّ رغبة الأخذ بطرف من هذه الحياة ؛ فعندما كنت في المدرسة الداخلية كانت السياسة الثورية أسلوب حياة، فاخترت طريقا آخر· أحمل خيوط الصيد وأتجه إلى غرب المدينة، وهناك أقضي ساعات أرقب وألاعب الأسماك وهي تنساب بين سطح البحر وقاعه، تتداخل جذوعها تتملّص بخفة فينعكس لمعان خاص يجذب النظر إليه·

في المساء تتنقل الأخبار بين الزملاء، يتناقشون كثيرا، تعليقاتهم تتشعب فتتجاوز تعليقات صوت العرب· الرؤوس المتقاربة لا تمنعهم من اللجوء إلى رفع الأصوات· كانوا حناجر حالمة بغد يبشر به دعاة السياسة·

أستمِعُ قليلا، بقيت على هامش المظاهرات ؛ في رجلي شيء يدفعها إلى التشبث في الأرض التي تحتي ولا أنظر إلى الأمام، في أذني صمم لا تريد أن تسمع المزيد، يكفي ما سمعته من عيسى فسمم حياتي، قلت لنفسي: لا تجعل للكلمات سلطانا عليك· تحرر من كل انقياد· وهكذا كنت أفعل لولا نبضة توهجت في زمن··

توثقت صلتي بسالم النايز في الثانوية· في مرة تمدد فضول طارئ في داخلي، هناك شيء غير معهود، في الممر تجمُّع غير اعتيادي، اقتربت، يخرج من الغرفة إلى الممر مجموعة يتقدمهم سالم، يضم إلى صدره راديو، خلفه آخر يتبعه حاملا بطارية بحجم الراديو، مثل سياميين متلاصقين، المسافة بينهما هي تلك التي يسمح بها طول السلك الرابط بين الراديو وبطاريته، يضع الراديو على حافة الحاجز العريض، للممر أصوات متداخلة، شرشرة، صفير، ضجة تطالب بتقصير الصوت للسماع: هس·· إذاعة الشرق الأدنى ابتعد·· ابتعدإذاعة بغداد وخر·· وخر إذاعة إسرائيل·· لعنات·· إرجع··· إرجع إحباط· تعود الأصوات إلى الارتفاع· في هذه اللحظة تكاثر الخبراء، وبخاصة طلاب الكلية الصناعية الذين انضموا لنا، كأن الخلل في هذا الصندوق الذي خلا من صوت العرب· تجمعٌ لشذرات من اليأس، بدأت الأجسام تتباعد، ولكنها في لحظة، مثل حمام يتجمع ثم يطير ليعود، عادت الجموع وتلاصقت حينما جاء الصوت، انفراجة واسعة في وجه سالم، يشير إلى الجموع· هنا صوت العرب من دمشق· المهم أنه عاد أخيرا·

تجمع المتحمسون مثل قط متكور يتهيأ للانقضاض، تسرب في دم جاهز للفوران· للتجمعات العشوائية توجهها الخاص· يندفعون إلى الساحة المربعة، من كل الجهات تنحدر جموع الطلبة، ترتفع الأصوات، تغني: إحنا الشعب·· إحنا الشعب· اخترناك من بين الشعب·· يردحون·· يلوحون بأيديهم· وترفع الغتر· أرسلوا أصواتهم في الفضاء العريض· في هذه اللحظة انطلق صوتي يهتف معهم: يا جمال·· يا جمال·

لم يعد فضولا· انفصلتُ عما كنت فيه، أصبحتُ منهم، الجسم يحاكي حركاتهم ثم اندفاع يصنع حماسته، أدفعه في الهواء ثم أهوي به، يصطدم كعب حذائي اللندني بالأرض محدثا صوتا متفجرا، التقطت الكلمات فهتفت: إحنا الشعب·· يسقط إيدن·· عاش ناصر·· يسقط إيدن·· إحرقوا البترول·· لا حساب للوقت· المشاعر تجسمت أصواتا، حركات، هتافات، انفعالات رأيتها حركات جامحة، تلاشى حذري، هتفت، ردد بعض من حولي ما أقول· هتف آخر فتابعته، تتابعت المتواليات الصوتية، تلاشت المسافة بين المحتشدين، ضاق المكان· اتجهت نية الجموع إلى المدينة فهناك ستكون المواجهة·

في الشارع الجديد كان الهدير، انضمت حشود، تجمعت أشكال من البشر زالت المسافات بينهم، تعددت الأزياء، اختلطت اللهجات، درجات الصوت· كنت نحيلا جدا فشعرت في إحدى لحظات الزحام بارتفاع قدمي عن الأرض· أتحرك معلقا بين الأجساد حتى جاءت موجة تباعدت فيها الأجسام كل واحد في اتجاه مختلف· حضر رجال الأمن فساد صوتهم وقوة ضربهم على الأرض، تبعتها أصوات لشط الخيازرين، بين الأرض والأجسام· من خيزرانة وجدت طريقها إلى ظهري استهلكت خمسة فناجين من الدهن العداني التي كانت ترى فيه عمتي الدواء النافع والبلسم الشافي·

بعد سنة، تبعت سالم النايز مرة أخرى، كنا في السنة الرابعة ثانوي، مع اكتمال طابور الصباح تقدم بجرأة وسار نحو صارية العلم، تبعته على غير عادتي دون تفكير، لا أدري لماذا، وقف وأعلن بصوت ثابت بدء مظاهرة، نسيت دوافعها، وعندما تحركنا بقوة انسحب ناظر المدرسة من الساحة وانتصرنا، ولكنني حرمت من الدراسة مدة أسبوعين مع كتابة تعهد بالانضباط، وقع عليه عيسى·

Pages