أنت هنا
الخلفية الثقافية : للحكم التسلطي في المجتمعات العربية المعاصرة
تاريخ النشر:
isbn:
نظرة عامة
كتاب " الخلفية الثقافية : للحكم التسلطي في المجتمعات العربية المعاصرة " ، تأليف د. محمد السهر ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
تمر الأمة العربية اليوم بأزمة حقيقية تهدد كيانها بالصميم، هذه الأزمة المتعددة الأوجه، المعقدة الأطراف، المتداخلة والمتشابكة الأبواب والمداخل، هي أزمةٌ قديمة، حديثة ومعاصرة. فالأمة العربية اليوم مهددة في كيانها الوجودي بعد أن صارت عرضة للاقتتال والاحتراب الأهلي، وبعد أن أصبحت أطرافها تُقضم الواحد تلو الآخر، بالأمس جنوب السودان وغداً شمال العراق وبعدهُ أجزاء من سوريا أو من مصر، ولا ندري أين ستتوقف عملية القضم أو التقسيم ومتى؟ وإذا كان هذا ما يخص الجغرافية، فإن ما يهم الهوية لهو أعظم خطراً، فالهوية اليوم غير واضحة المعالم، مشوشة الرؤى، فالقوميات التي كان يُظن أنها انصهرت في بوتقة الهوية العربية ظهر اليوم أنها باقية على أصولها وهي منتظرة للفرصة المؤاتية للانفصال، وهذا هو حال الهويات الأمازيغية والطوارقية في المغرب العربـي، والهوية الكردية في شمال العراق وشرق سوريا.ثم تأتي الهويات الدينية والمذهبية، فينقسم المجتمع العربـي أفقياً وعمودياً إلى مسلمين ومسيحيين، والمسلمون ينقسمون إلى سنة وشيعة، ينقسم كلٌ منهما إلى فرق ومرجعيات فرعية، والمسيحيون إلى أقباط في مصر وكلدان وآشوريين في العراق وموارنة في لبنان وهلم جرا.
وإذا كانت هذه الهويات أصيلة وقديمة، فما الذي أبقاها على حالها إلى اليوم؟ ولماذا الآن هي مستعدة للانفصال عن الجسد الحاضن لها وهو الأمة العربية بعنوانها الكبير؟ كلنا يعرف أن هذه الهويات دخلت في جسد الأمة أثناء عمليات الفتوحات الإسلامية في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، لكن النظام السياسي العربـي الذي تشكل آنذاك وقام على أساس الاستبداد والتسلط همشَ كل الهويات الأخرى، ولم يعطها حقها في المشاركة طوال الأربعة عشر قرناً الماضية، حتى إذا ما تغيرت معالم العالم في باكورة الألفية الثالثة شعرت هذه الهويات بأن شيئاً لم يتغير والحال هي ذاتها وكأنها تعيش في العقلية السياسية العربية في القرون الوسيطة.
لقد كان للخلفية الثقافية التي استند عليها المجتمع العربـي في شرق الوطن العربـي ومغربه، الدور البارز والهام والمؤثر في بقاء جميع الهويات الفرعية داخل الجسد العربـي الكبير، قومية أو دينية، في بقائها مهمشة وغير فاعلة، وتحمل في ذاكرتها الجمعية مشاعر الغبن والظلم والاضطهاد، حتى إذا ما تدخل العنصر الخارجي ظهرت هذه الهويات إلى السطح معبرةً عن رؤى جديدة لا تنسجم مع رؤى الأمة الواحدة، ليس في الوحدة الجغرافية التي تبدو اليوم مستحيلة أكثر من أي وقت مضى، بل وحتى في الوحدة الفكرية أو النفسية أو الثقافية. وهكذا نجد اليوم أن ما يسمى بالكيان العربـي يمر بأضعف فترات تاريخه، حيث تشير كل الدلائل والمعطيات المتوفرة على الأرض بأن هذا الكيان عرضة للتهشيم على أساس الهوية والقومية والانتماء من جهة، والدين والمذهب والطائفة من جهة أخرى.
لا يخفى أن النظام السياسي العربـي المعاصر هو نظام قرووسطي العقلية والتفكير، يعتمد ديكتاتورية العائلة أو الحزب أو الطائفة في إدارة شؤون البلد الذي هو فيه، وليس هناك اختلاف بين رئيس جمهورية يرتدي البذلة وربطة العنق، وبين ملك يرتدي الكوفية والعقال، أو سلطان يرتدي العمامة ويعتمر الخنجر، أو رجل دين يرتدي الجبة ويحمل بيده كتاب الفقه، الجميع يعيشون في عقلية الزعيم العربـي الإسلامي الذي ظهر أبان الدول الأموية بشطريها في دمشق والأندلس، أو العباسية في بغداد، أو الفاطمية في القاهرة، وكافة الإمارات والدويلات التي ظهرت آنذاك في كنف هذه الدول أو منفصلة عنها.
إذن لماذا الوطن العربـي مختلف؟ مختلف بكل شيء عما يحيطه من عالم. لماذا هو عاجز عن حل مشكلاته، وعن التخطيط لمستقبله، وعن التصالح مع ذاته، وعن دمج مكوناته وقومياته وأديانه ومذاهبه وطوائفه وأثنياته في وحدة نفسية-ثقافية تجعلها تشعر بالانتماء الحقيقي لهوية عربية واحدة، وليس الشعور بما كان يشعر به الموالي وأهل الذمة والإماء من مواطنة ناقصة؟ لماذا لم يستطع المجتمع العربـي إنتاج فكر سياسي معاصر ومستقل؟ لماذا ظل يجتر الماضي بحثاً عن الجديد؟ لماذا ظل يدور في دوامة الفقر والأمية والفساد والمرض والتخلف؟ لماذا عجزت حكوماته عن إقامة تنمية حقيقية ومستدامة؟ لماذا ظل هذا الوطن الكبير يستهلك ذاته ويحطم كيانه ويبدد ثرواته ويحارب مكوناته ويهمش أجزائه؟ لماذا لم تحقق أية دولة عربية طوال القرن الفائت أي إنجاز عالمي مرموق، لا يهم ما نوع هذا الإنجاز، عسكرياً كان أو علمياً-معرفياً أو رياضياً أو فنياً أو.... الخ. لا ريب أن الثقافة هي السبب الرئيس والعامل الأساس في كل ذلك، فالثقافة العربية في الوقت الراهن هي ثقافة تقليدية، ارتدادية، نكوصية وعقيمة، كانت ولا زالت تعمل على إنتاج الخنوع والخضوع والاستكانة والاستسلام والطاعة التامة للحاكم، والنتيجة النهائية تتجلى فيما نحنُ فيه اليوم من هزيمة على المستويات كافة.
سنحاول في هذه الدراسة، البحث في ثنايا وخفايا الثقافة العربية، ما ظهر منها وما بطن، ما جُهر به وما أُسر، ما شاع منها وما استتر. البحث عن ماذا؟ عن كل ما يمكن تحديدهُ من ميكانيزمات وآليات ودوافع وعوامل، تدعو وتساعد وتُنتج ثقافة الاستبداد بوجهيها، استبداد الحاكم وتسلطه من جهة، وقبول المحكومين بالتسلط والاستبداد والخضوع له والاستكانة في ظله من الجهة الأخرى، بل وهذا هو الأهم، البحث عن الحكم التسلطي واستمراءه واستنشاق الملوث من هوائه وشرب المسموم من مياهه. إذن فأن هذه الدراسة سوف تبحث عن كل ما يُثبت أو يفند ادعاءات القائم بها، وافتراضاته التي يقول فيها أن المجتمعات العربية هي التي تنتج الاستبداد والتسلط وتساعد على استمراره وديمومته، المشكلة بالمحكومين قبل إن تكون بالحاكم، فهم الذين يقدمون أنفسهم قرابين لبقائه وأرواحهم فداء مقدمه فيهم، حاكماً بقوة السيف أو ما يعادله من أدوات عنف معاصرة.
مشاركات المستخدمين