أنت هنا

قراءة كتاب سواقي القلوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سواقي القلوب

سواقي القلوب

في رواية "سواقي القلوب":
بفضل سراب عرفت كيف تغدو الحواس كمنجات وحاذيت السر الذي يحيل ممارسة الحب تمريناً على فعل الخلق.
ومعها بلغت ضفاف بحيرات لم أتيقن يوماً أنها كانت كامنة في خبايا جسدي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7
يقهقه الولد الأُلعبان الذي سمَّيناه حنقباز السماوة، تماشياً مع بهلوانياته وخفَّة دمه الفطريَّة، ويقول للخاتون المفتونة به إن من كان اسمه زمزم، فلا خوف عليه من هكذا طركاعة وتستفزُّني المفردة الشعبية الجنوبيَّـة فأبحث عنها في المنـجد، في بـابطرقع يطرقع ، وأقع على طرفس يطرفس بمعنى لبس الثياب الكثيرة، وعلى طرمح يطرمح بمعنى أطال، لكنني لا أجد ما أبحث عنه، فأعقد النيَّة على شراء قاموس للهجات الدارجة لكي أحلَّ لغز الطرقاعة· لكن أين أعثر في باريس على هكذا قاموس؟
 
و الفيلم ما زال يدور أمامي· وزمزم ما زال يبتكر شتى فنون التحايل على الخاتون لكي تعاود الحديث، ويؤكد لها أنَّ كلامها يساوي عشرات الكتب ويتفوَّق على المئات من المصادر الجامدة المملَّة، فأدخل على الخط و أغمز له بعيني:
 
ـ ألا تعرف دواءها يا شاطر؟
 
يلقف زمزم المعنى وتشرق ابتسامته السمراء فتضيء الحجرة التي زحفت عليها العتمة ونحن في أول المساء· وأقوم الى المطبخ وأعود ممتشقاً قنينة داكنة من بنات الأُصول، يرتاح لمرآها قلب الخاتون فتبرق عيناها وتنبسـط ملامح وجهها السـمين وتمدُّ يديها في اتجاه السعادة الآتية كمن يحاذر عليها من أن تقع وتنكسر·
 
أُناولها القنينة بيد والفتَّاحة اللولبية باليد الأُخرى لكي تتولى بنفسها تلك المهمة الأثيرة لديها· من يجرؤ على افتضاض زجاجات النبيذ غير الخاتون؟
 
بعد الرشفة الثالثة يعود زر الكاميرا الى الاشتعال وتنطلق بطلة الفيلم، تتحدَّث بكلَِ أريحيَّة، مؤدية دور حياتها:
 
ـ سمَّتنـي أُمِّي بهذا الإسـم وفاء لذكرى أبـي الذي كان يحـب السـجَّاد العجميَّ ويبحث عن النادر منه· ويبدو أنَّ علاقته بالسجَّاد لم تكن من نوع الولع العاديِّ بالأشياء البديعة والثمينة وقد أخبرتني شقيقتي أنَّ أبي المرحوم كان يمرُّ بلحظات انخطاف، فيخلع نعليه وينحني على السجَّادة القديمة يتلمَّسها براحة كفِّه ويشمُّ رائحة صوفها الذي وطأته آلاف الأقدام، ويمرر عليها صفحة خدِّه ثم يصيح: أمآن !
 
و رغم أنِّي لم أر أمِّي التي جاءت بي الى الدنيا، لكنَّ المرأة المسلمة التي ربَّتني روت لي أنَّها كانت بيضاء مثل الجُمَّار، حمراء الشعر مثل بنات اوربَّا، وذات أُبَّهة جعلت الكلَّ يناديـها الخاتـون، مع أََنَّها قَدِمَت الى الموصل كسـيرة لا سـند لها· والخاتون، كما تعلم، لقب يدل على الكثير من الإحترام، تَرِثَه البنات عن الأُمهات فيصبحن، بدورهنَّ، خواتينَ في البيوت المفروشة بالسجَّاد، المؤثثة بخشب السيسم، والمحجوبة وراء ستائر القطيفة الثقيلة·
 
تتوقَّف الخاتون وتلتقط نفساً عميقاً تعقبه برشفة أنيقة من كأسها، وتشـعر بالرضا وهي ترى أعيننا شاخصة اليها، مبهورة بروايتها، فتبتسم لنا من عليائها ابتسامة شحيحة متكبِّرة، وتأخذ رشفة أُخرى وتواصل كلامها:
 
ـ عشتُ عزيزةً في بيت أُم شيت، أُمِّي المسلمة الطيِّبة التي تعرف الله ولا تُفَرِّق بين عباده، وكنت أفرش لها السجادة في مواعيد الصلاة وأصوم رمضان مع الأُسرة كلِّها، لكنِّي لم أنسَ ديني وأصلي، ولا مأساة أهلي· ولما كبرتُ وبدأتُ أزور أُختي الراهبة في الدير، دارت بيننا أحاديث طويلة· وعرفت منها أنَّ بيتنا في دير الزور كان مفروشاً، أرضاً وجدراناً، بسجاجيد كثيرة، تركيـة وقوقازية وكردية، وكان أغلاها تـلك التـي يأتي بها التُجَّـار من مدينة كاشـان في إيـران، لأنَّها الأبـهى، وبها تُشبَّه الحسناء التي لا يقوى الزمان على حسنها، فيقال إنّها مثـل الزوليَّة الكاشان، تزداد ألَقاً كلَّما تقدَّم العمر بها·
 
و لمَّا جاءت أُختي الى الدنيا، سمَّاها أبي كولفارانك، أي الوردة الفرنسيَّـة، وهي التسمية التي يطلقها العارفون بالسجَّاد على الأزهار المنقوشة فوق صفحات الكاشان والكرمان والتبريز وكلِّ تلك النفائس التي تحيكها أنامل نساء وبنات وأولاد في سنِّ الورد· لكنَّ أبي لم يكن موجوداً ليشهد ولادتي· وروت أُمِّي لإحدى الجارات أنَّ المرحوم زارها في المنام، ليلة مجيئي الى الدنيا، وأوصاها بأن تُسمِّيني كاشانيَّة
 
هل عرفتَ معنى اسمي يا زمزم يا ابني؟ وهل تجد كلامي معقولاً أم تخاريف عجائز؟ أنا لا أدري بمَ تنفعك هذه الحكايات المنتزعة من الدفاتر العتيقة، ولا ما يعنيه لك الكاشان وعشَّاق الكاشان··· أنت الذي لم تعرف قدماك سوى ملمس بُسُـط السماوة وموكيت باريس·

الصفحات