أنت هنا

قراءة كتاب سواقي القلوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سواقي القلوب

سواقي القلوب

في رواية "سواقي القلوب":
بفضل سراب عرفت كيف تغدو الحواس كمنجات وحاذيت السر الذي يحيل ممارسة الحب تمريناً على فعل الخلق.
ومعها بلغت ضفاف بحيرات لم أتيقن يوماً أنها كانت كامنة في خبايا جسدي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10
7
 
 
 
يجب عليَّ أن أُقرَّ بأنني ملتُ الى سراب قبل أن أعرف انَّها كانت في وقت من الأوقات شيوعيّة، مثلي· وكم صدق جبرا حين وصفها بالمرأة الحُرَّة، فهي من ذلك النوع من البشر الذي يرفرف أعلى من الانتماءات الضيِّقة أو الطوائف الخانقة أو الأحزاب التي تحبس أعضاءها في قنِّ دجاج· وإذا عدت الى قاموس سنـوات الخمسين والأوصاف التي أسبغتها الصحف على عبدالكريم قاسم فإنَّني أستطيع وصف سراب بأنَّها مثل الزعيم، فوق الميول والاتجاهات أمَّا إذا استعرتُ لغة الأُغنيات البغدادية التي فيها من الوجد ما يقطِّع نياط القلوب، فسأقول عن سراب ما كان يقوله يوسف عمر لمحبوبه: انت دولة مستقلَّة··· بالنجف لو بالعمارة··· سودنوني هل نصارى
 
و باستقلالها المكتمل غير المنقوص، شدّتني سراب اليها وداعبت أوتاري، وتراً وتراً، فتقطَّعت آخر الخيوط التي بقيت تربطني بسوزان·
 
يخيَّل اليَّ أنَّ كل واحد منَّا، نحن الآتين الى هذا البلد الفذ، كانت له سوزانه الطيبة الحنون في مرحلة ما· فما أكثر السوزانات اللواتي أخذنَ بالأيدي وكنَّ عشيقات وصاحبات مأوى ومعلمات لغة وممرضات وحيطان مبكى ودليلات و وطاعمات وكاسيات، لأجلٍِ من الآجال·
 
بعد ذلك، يحدث أن تشتَّد الأعواد المنزوعة من أرضها، ويقف المنفيُّ المكسور على قدميه، ويروح يحاول التحليق بجناحيه، خارج الفضاء المرسوم له بدقَّة شديدة، فتطلُّ تجاذبات القوَّة برأسها من شقوق الاستسلام والطاعة، وتنتعش الغيرة المريضة، وتتحوّل السوزانات الى شرطيَّات يترصَّدن الحبيب الغريب الذي ما عاد غريباً عن المدينة·
 
حكيت لسوزاني عن سوزان طه حسين، وعن سوزان فائق حسن، وعن سوزان اسماعيل الشيخلي، وكيف أنَّ كلَّ واحد من هؤلاء الموهوبين والمبدعين الكبار يدين الى سوزانه بالكثير مما وصل اليه· لكنَّ سوزاني التي بدت متفهمَّة لاحتياجاتي، لم تتقبَّل، إلاَّ على مضض، صداقتي المتينة مع زمزم، رغم انَّه كان بالغ اللطف معها·
 
لم تفهم رفيقتي فكرة أن واحدنا يحتاج الى لقاء الآخر في أغلب أيام الأُسبوع، وانَّنا إذا اجتمعنا فإنَّ الفرنسيَّة قد تكون لغة أحاديثنا، لكنَّ العربية، لا غيرها، ستكون لغة النكات والمعارك والشتائم وألأغنيات· وكان زمزم يحرص على أن يأتي بسوزانه معه، في أحايين كثيرة، لكي تُسلِّي سوزاني عندما نكون نحن غارقين في نقاشاتنا السياسية التي لا فرامل تكبحها، أو في سهراتنا الطويلة التي كنا نلتمُّ فيها عند الخاتون·
 
عند انتهاء السهرة، كنت أنزل مع سوزان الى شقَّتنا وجفوة ملتبسة قائمة فيما بيننـا· جفوة لا سبب مباشراً لها· فلا اقرِّبها ولا تتقرَّب مني، وننام مثل غريبين يشتركان في سرير ملغوم·
 
حاولت، بناء على نصيحة من الخاتون، أن أخرج من قوقعتي العراقيَّة وأنانيَّتي وأن أُكرِّس وقتاً أطول لسوزان· لكن القاطرة كانت قد حادت أصلاً عن السكَّة، ولم تكن المشكلة في اللغة أو في قلَّة الإهتمام، بل في شقاقات كثيرة، ما عادت العلاقة الجسديَّة المحمومة كفيلة بترميمها، ولا عاد الجسد نفسه يستجيب للنداء·
 
بكت سوزان قهراً، ذات ليلة، وهي تصارحني بعجزها عن اقتحام عالمي النائي· قالت إنَّ ضحكي المستمر الأبله على نكات زمزم يوتِّر أعصابها ويعزلها في قفص مثل قرد مغمض العينين لا يفقه ما يدور حوله· ولم أُحاول أن اُهدئ من روعها، كعادتي عندما تداهمها نوبات البكء وهي سكرى، واكتـفيت بأن قلت ببرود:
 
ـ هذه مشكلتك·
 
استيقظتُ في الصباح التالي فوجدت ورقة منها على رفِّ المدفأة تخبرني بأنَّ من الأفضل لكلينا أن نتباعد لفترة من الوقت· ولم أجد حاجياتها في الشقَّة· لقد هجرتني·
 
و كرهتُ نفسي، لحظتـذاك، لأنَّني لم أُصدَم لذهابها، بل لم أحزن أو أكتـئب· وبدل الحزن زحف نمل الارتياح على صدري وغمرني حتى أُذنيَّ ، وشعرت بالعرفان لأناقة تصرُّفها إذ وفَّرت عليَّ مشهد الرحيل بعد أربع سنوات من الحياة المشتركة·
 
سرتُ نحو زاوية المطبخ وملأتُ القوري بالماء في حركة روتينيَّة تتلبَّسني حالما أصحو في الصباح، ثم قرَّرتُ، قبل أن أصبَّ كوب الشاي، أن أعود الى النوم في فراش صار لي وحدي·

الصفحات