في رواية "سواقي القلوب":
بفضل سراب عرفت كيف تغدو الحواس كمنجات وحاذيت السر الذي يحيل ممارسة الحب تمريناً على فعل الخلق.
ومعها بلغت ضفاف بحيرات لم أتيقن يوماً أنها كانت كامنة في خبايا جسدي.
قراءة كتاب سواقي القلوب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

سواقي القلوب
الصفحة رقم: 3
2
لم تكن باريس منفى بل فاصلة جميلة شطرت عمري ووَشَمَتني بختـم لا يُمحى· وكنت قد وصلتها ملتاعاً، هارباً من احباطين ملعونين، سياسيٍّ وعاطفيٍّ· وإذا كانت نجوى هي الحبيبة التي خَذَلتني مَرَّة فإنَّ الحزب كان لحميَ الحي الذي خذلني مرَّات· ومع هذا ، فإنني لم أقوَ على الانسلاخ عن جلدي أو الإبتعاد عن الرفاق الذين سبقوني في الرحيل· وهو لم يكن سفراً كما يسافر الناس من مطارات الأرض وهم يحملون الحقائب والهدايا، بل فرار في ليلة سوداء، أحمل في متاعي الخفيف الهموم الثقال لاولئك الَّذين خلَّفتهم ورائـي··· يمضغون المر ويتنفسون الفساء النتن لجبهة وطنيَّة تحوّلت الى جثَّة متفسِّخة·
للأمانة، لم تكن باريس مكاناُ يناسب حسرة الهاربين من الأوطان· إذ كيف يكـون كل هذا الأَلَـق والفن و البارات التي لا يغمض لها جفن منفى لأمثالي ممن ضاقت بهم البلاد أو ضاقوا بها؟ كنت أعرف أن المنافي تشبه جُزُراً أو مناطق نائية، بدائية، تتقشَّف فيها الحياة حتى تخلو من أي لذاذة··· شيئاً مثل هنغام التي نُفيَ اليها زعماؤنا الوطنيـون في العشرينات، أيام الإنكليز، او مثل سيبيريا أو سيشل أو حتى كورسيكا· لكن حتى هذه البقاع أصبحت جنَّـات يتسابق عليها السـائحون، فما بالك بباريس يا نبيَّ التسكعات يا زمزم؟
كنـتُ قد تعثَّرتُ بك في حديقـة اللوكسمبورغ ، في واحد من تلك الصباحات التي تمدُّ فيها عقارب الساعات سيقانها، على مهل، ولا تعود تنفع معها المطالعة أو مشـاهدة التلفزيون· ولجأتُ، كعادتي، الى الحديقة الواسعة التي لم يكن لي مكان، غيرها، يلتهم أشهري الاولى الخاوية في هذا البلد· أما أنت، فكنت تمارس رياضة الهرولة اليومية مثل أي برجوازي صغير يخاف على لياقته البدنية، أو مثل طالب بعثة بطران، يتلقى منحة شهرية معقولة، وقد نبت له كرش صغير من كثرة التهام أصابع البطاطا المقلية وعبِّ البيرة·
وقفتَ تلتقط أنفاسك بالقرب من الكرسي الحديديِّ الأخضر الذي كنت أجلـس عليه، وظننتك، بادئ الأمر، أحد اولئك المغاربة الذين أصابهم هوس عويطة فراحوا يركضون بأقصى سرعة وكأنَّ الذئاب في إثرهم· ثم لفت انتباهي أنك تدسُّ جريدة الثورة البغدادية في حزام سروالك الرياضي، فلم اتمالك نفسي من القول بصوت تعمدتُّه عالياً:
ـ يا فتَّاح يا رزَّاق··· بأي وجه أغبر اصطبحنا اليوم لكي تطلع لنا الثورة في اللوكسمبورغ؟
لم تفاجئك عبارتي، وكأنَّ باريس، بالنسبة لك، مزرعة عراقية صرف تحتشد بمواطنيك الآتين من كل المحافظات· أما أنا فقد فاجأتني ضحكتك الطيبـة وأنت تمدُّ لي يداً مصافحة وتردُّ على حرشتي بلهجة جنوبية لا تخطئها الأُذن:
ـ خـوي أنا لستُ بيَّـاع جرايد، ولو كنتُ كذلك لجئتك بجريدة طريق الشعب وأنا الممنون·
حزرتُكَ وحزرتني، والنهار في أوَّله·
هكذا ابتدأت صداقتنا· من عبارة نَزِقَة منِّي وعبارة حبَّابة منك· وهي صداقة ستُسبِّب لك مشكلات سقيمة مع حزبك، إذ لم يفهم رفاقك الأشاوس كيف يمكن لبعثيٍّ ملتزم، مثلك، أن يصادق شيوعيـاً قطمر في تلك السنوات الملتهبة التي كانت مطاردة السَحَرة، فيها، قائمة على قدم وساق، والحرب مع ايران تُطلق مارد الكراهية من قمقمه؟
هل تظنُّ أنَّ رفاقي، من جهتهم، فهموا الأمر؟