أنت هنا

قراءة كتاب الفتاوى الكبرى الجزء الأول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفتاوى الكبرى الجزء الأول

الفتاوى الكبرى الجزء الأول

كتاب "الفتاوى الكبرى" - الجزء الأول، يضم بأجزاءه الخمسة عشر فتاوى الإمام ابن تيمية في أغلب المسائل الشرعية، حيث يجد فيه المسلم ضالته في الإجابة على كثير من التساؤلات التي تعترضه في أموره الدينية والدنيوية، والتي من خلال هذه الفتاوى يسير على هدي الكتاب والسن

تقييمك:
4.63635
Average: 4.6 (11 votes)
المؤلف:
دار النشر: ektab
الصفحة رقم: 8
وَهَكَذَا الْمُنَجِّمُونَ ، حَتَّى أَنِّي لَمَّا خَاطَبْتُهُمْ بِدِمَشْقَ وَحَضَرَ عِنْدِي رُؤَسَاؤُهُمْ ، وَبَيَّنْتُ فَسَادَ صِنَاعَتِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّتِهَا ، قَالَ لِي رَئِيسٌ مِنْهُمْ : وَاَللَّهِ إنَّا نَكْذِبُ مِائَةَ كِذْبَةٍ حَتَّى نَصْدُقَ فِي كَلِمَةٍ .
 
وَذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى عِلْمِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةِ هِيَ السَّبَبُ فِي الْحَوَادِثِ ، وَالْعِلْمُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُلِمَ السَّبَبُ التَّامُّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ حُكْمُهُ ، وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مَا يَعْلَمُونَ إنْ عَلِمُوا جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ ، وَلَا يَعْلَمُونَ بَقِيَّةَ الْأَسْبَابِ ، وَلَا الشُّرُوطَ وَلَا الْمَوَانِعَ ، مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الصَّيْفِ تَعْلُو الرَّأْسَ حَتَّى يَشْتَدَّ الْحَرُّ ، فَيُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ هَذَا مَثَلًا أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْعِنَبَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ الْفُلَانِيَّةِ يَصِيرُ زَبِيبًا ، عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ عِنَبًا ، وَأَنَّهُ يَنْضَجُ ، وَيَنْشُرُهُ صَاحِبُهُ فِي الشَّمْسِ وَقْتَ الْحَرِّ فَيَتَزَبَّبُ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَقَعُ كَثِيرًا ، لَكِنْ أَخْذُ هَذَا مِنْ مُجَرَّدِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ جَهْلٌ عَظِيمٌ ، إذْ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ عِنَبٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، وَقَدْ يُثْمِرُ ذَلِكَ الشَّجَرُ إنْ خُدِمَ وَقَدْ لَا يُثْمِرُ ، وَقَدْ يُؤْكَلُ عِنَبًا وَقَدْ يُعْصَرُ ، وَقَدْ يُسْرَقُ وَقَدْ يُزَبِّبُ ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
 
وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ وَتَحْرِيمِهَا كَثِيرَةٌ ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا } .
 
وَالْعَرَّافُ ، قَدْ قِيلَ إنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ وَنَحْوِهِمْ ، مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي تَقْدِمَةِ
 
الْمَعْرِفَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ ، وَلَوْ قِيلَ : إنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ، فَسَائِرُهَا يَدْخُلُ فِيهِ بِطَرِيقَةِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ ، كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِمَا .
 
وَأَمَّا إنْكَارُ بَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا ، بَلْ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، تَعَوَّذِي بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَهَذَا الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ } .
 
كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ .
 
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } ، أَيْ لَا يَكُونُ الْكُسُوفُ مُعَلَّلًا بِالْمَوْتِ ، فَهُوَ نَفْيُ الْعِلَّةِ الْفَاعِلَةِ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ { رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ ، فَقَالَ : مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
 
فَقَالُوا : كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ ، فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْأَمْرِ تُسَبِّحُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي مُسْتَرِقَةِ السَّمْعِ ، فَنَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ الرَّمْيُ بِهَا لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ ، بَلْ لِأَجْلِ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقِينَ السَّمْعَ .
 
فَفِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ ، أَنَّ مَوْتَ بَعْضِ النَّاسِ وَحَيَاتَهُمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ،
 
وَلَا لِلرَّمْيِ بِالنُّجُومِ وَإِنْ كَانَ مَوْتُ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ يَقْتَضِي حُدُوثَ أَمْرٍ فِي السَّمَاوَاتِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ : { أَنَّ الْعَرْشَ عَرْشَ الرَّحْمَنِ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ } .
 
وَأَمَّا كَوْنُ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحَادِثٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَذَابٍ يَقْتَضِي مَوْتًا أَوْ غَيْرَهُ ، فَهَذَا قَدْ أَثْبَتَهُ الْحَدِيثُ نَفْسُهُ .
 
وَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُنَافِي لِكَوْنِ الْكُسُوفِ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ يَكُونُ فِيهِ ، حَيْثُ لَا يَكُونُ كُسُوفُ الشَّمْسِ إلَّا فِي آخِرِ الشَّهْرِ لَيْلَةَ السِّرَارِ ، وَلَا يَكُونُ خُسُوفُ الْقَمَرِ إلَّا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ لَيَالِي الْإِبْدَارِ ، وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ أَوْ الْعَامَّةِ فَلِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحِسَابِ ، وَلِهَذَا تُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِنْ الْكُسُوفِ وَمَا يُسْتَقْبَلُ ، كَمَا تُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِنْ الْأَهِلَّةِ وَمَا يُسْتَقْبَلُ ، إذْ كُلُّ ذَلِكَ بِحِسَابٍ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : { جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } .
 
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } .
 
وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } .
 
قَالَ تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } .
 
وَمِنْ هُنَا صَارَ بَعْضُ الْعَامَّةِ إذَا رَأَى الْمُنَجِّمَ قَدْ أَصَابَ فِي خَبَرِهِ عَنْ الْكُسُوفِ الْمُسْتَقْبَلِ يَظُنُّ أَنَّ خَبَرَهُ عَنْ الْحَوَادِثِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ ، إذْ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بِأَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ ، إمَّا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ ، وَإِمَّا لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ ، لَا يُخْرَمُ أَبَدًا ، وَبِمَنْزِلَةِ خَبَرِهِ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ آخِرَ النَّهَارِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ، فَمَنْ عَرَفَ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَجَارِيهِمَا عَلِمَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
 
عِلْمًا قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْكُسُوفُ لَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَجَلِهِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبًا لِمَا يَقْضِيهِ مِنْ عَذَابِ غَيْرِهِ لِمَنْ يُعَذِّبُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُنَزِّلُ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ ، كَمَا أَنَّ تَعْذِيبَ اللَّهِ لِمَنْ عَذَّبَهُ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ ، كَقَوْمِ عَادٍ ، كَانَتْ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ ، وَهُوَ آخِرُ الشِّتَاءِ ، كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَقُصَّاصُ الْأَنْبِيَاءِ .
 
وَكَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَأَى مَخِيلَةً ، وَهُوَ السَّحَابُ الَّذِي يُخَالُ فِيهِ الْمَطَرُ ، أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ : إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا مَخِيلَةً اسْتَبْشَرُوا ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ وَمَا يُؤْمِنُنِي ، قَدْ رَأَى قَوْمُ عَادٍ الْعَذَابَ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ، قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } ، قَالَ اللَّهُ : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

الصفحات