قراءة كتاب عناقيد العطش

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عناقيد العطش

عناقيد العطش

كتاب " عناقيد العطش " ، تأليف د. علي حجازي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

الطالب الجامعي يحاضر شهيداًعن ثقافة الحياة!

حين وزّعت نسخاً عن الورقة التي سُجِّلَتْ عليها الأمثلة المساعدة على فهم الدرس، أذكر أنني وضعت أوراقاً على الطاولات كافة، لأن بعض الطلاب الوافدين من القرى قد يتأخرون بضع دقائق، غير أنّهم نادراً ما يتغيبون. أحسستُ بوجوم تامّ مرتسم على وجوه الحاضرين، فلم أعر الأمر كثير اهتمام، وانصرفت أحاول بعث حيويّة في الشرح. سجّلت بعض رؤوس الأقلام المساعدة، وتوجّهت إليهم، محاولاً تلمس مقدار انجذابهم إلى الدرس، ظلوا صامتين، لم يشاركني أحد.
انتابني شعور بالغربة لم أعهده من قبل. رحتُ أفكّر في مادة الدرس، ربّما تكون الأساس في انقطاع عمليّة التلقّي. عقدت في ذهني مقارنةً سريعةً، بينها وبين المحاضرة السابقة، التي كنّا، الطلاب وأنا، نشترك في صوغ أمثلة جديدة، فوجدت أنَّ لا علاقة للمحاضرة بالامتناع عن الاستجابة. لم يرق الوضع لي. توجّهت إلى الملاحظات المكتوبة، فلم أجد سبباً مقنعاً، انتقلت ببصري نحوهم، نحو وجوههم. كانت ساهمةً، متسمرةً، كأنَّها ترقب الفراغ. كانوا شاخصين إلى شيء لا أعرفه، إلى أمر عجزت عن اكتشافه تلك اللحظات.
أمسكتُ ورقةَ الأمثلة، التي من عادتي أن أنتقيها من الواقع، واقع الناس والأرض، فقد عفت المألوف من زيد وعمرو، وفلان وعلاّن، وطلبت إليهم، أن يمسك كلّ واحدٍ منهم ورقته، ويقرأ ما فيها بصمت، بقيت الأوراق على الطاولات. رحت أُسائل نفسي: «أيكون هؤلاء قد اتفقوا على تنفيذ اعتصام ما؟ ولمَ الاعتصام»؟ (همست) لحظات قاسية، ونظرات منكسرة، كدت انفجر:
ـ ما بكم قولوا؟
ظلوا صامتين. أخذت أحدّق في عيونهم، في كتبهم، في مقاعدهم والطاولات. الله ما هذا! مقعد فارغ فقط في الصف الأمامي، إنَّه مقعد حسين، وهذه طاولته تحمل أمثلة الدرس، والكل شاخص إليهما، أينهُ؟ (تمتمت).
استمروا منشدّين إلى طاولة حسين ومقعده، وشرعت عيون الطلاب والطالبات، تحبّر بدمع شفيف قصةً حزينةً، بدأت خطوط تفاصيلها ترتسم في ذهني ومخيلتي. «ربما يكون الطالب تعرض لحادث ما، أو أصاب أهله مكروه ـ لا سمح الله ـ أو استهدفه مرض مفاجىء، أو تهدّم منزله بفعل القصف الصهيوني اليومي، مَن يدري». وقطع صوت جارته في الصف عليّ حبل تساؤلاتي وقالت بصوت تخنقه الغصة:
ـ أستاذ، خذ ورقة الأمثال هذه، فحسين لم يعد بحاجة إليها!
ـ ماذا تقصدين؟
وقف عادل وقال:
ـ حسين، انتقل إلى جامعةٍ ثانيةٍ، فقد استشهد البارحة يا أستاذ، لعلك شاهدت عملية اقتحام الموقع من على شاشة التلفاز!
ـ نعم، غير أنّي لم أتوقع أن يكون المقاوم المقتحم على العدو موقعه المحصّن هو حسين. رأيته يتقدّم بخطى واثقة، يحملُ رايةً وعزماً وذخيرة.
«غامت عيناي، ورحت استعيد صورة حسين، الطالب الجامعي الوادع الجالس يستمع بشغف إلى الدرس وتفاصيله وأمثلته، ويحمل عزماً على متابعة الحياة والدراسة والتحصيل العلمي، أخذتُ أقارنها بصورة البطل المقاوم المقتحم بثبات وإيمان مواقع حصينة، يكتب بدمه درساً تطبيقياً وفي حبّ الحياة وعشق الأرض لا ينسى، بل وهو يعلّم كيف يحاضر الجامعيون غائبين، عن ذوبان في العلم، وفي حبّ التراب والحرية!
نزلت من على المنبر، وتوجّهت إلى مقعده وطاولته، حملت الورقة، احتضنتها برفق. حاولت أن أهديه بضع كلمات تليق بقامته العالية. أغمضت عينيّ، أبصرته منتصباً أمامي يهمس بكلمات:
«أستاذ، اعذرني، لم أتمكّن من الحضور، لقد نادتني الغالية فلبّيتُ، لقد نادتني الحياة الأبديّة الخالدة فعفت الدنيا الفانية».
فتحتهما، وتلفّعتُ بصمتٍ يفضل الكلام ألف مرّة، في مثل هذا الموقف الذي يغدو فيه الطالب أستاذاً في حبّ الأرض والحياة، وفي كتابة الأمثلة الحيّة المعبّرة عنهما.
بعد التحرير 2000

الصفحات