قراءة كتاب مئة سنة من الحب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مئة سنة من الحب

مئة سنة من الحب

كتاب " مئة سنة من الحب " ، تأليف عماد أنيس بيطار ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 2

ـ آنذاك، كنا الوحيدين اللذين بدا أنهما لا يلائمان المكان، ولا غرابة، فكثيراً ما يتلاقى الناس بدون معنى. ولا أدري إذا كان من سوء حظي أن تجلس هذه السيدة إلى الطاولة ذاتها؟ أم أن العناية الإلهية قد أرسلتها إليَّ برسالة لم أنجح في فكّ رموزها بعد؟ أم ربما هي فنانة في الاحتيال تود الإيقاع بي بطريقة مفبركة؟ ومهما يكن من أمر، فأنا لم أعد أهتم سوى بملاحظة أكبر عدد ممكن من ملامحها التي تساعدني على رسمها بدقة.

ـ رفعت السيدة يدها في الهواء ملوِّحة للنادل، طلبتْ فنجان قهوة بلا سكر، ومن ثم للمرة الثانية أخرجت الورقة نفسها من الحقيبة، قرأتْها مرة أخرى. بكتْ أيضاً. ثم عمدتْ إلى إخراج المنديل وجففت دموعها ثانية. كانت تفعل ذلك وثمةَ همس حولنا. فالزبائن ينظرون بفضول لمعرفة ماذا يجري بيننا! بتُّ محرجاً أمام روّاد المقهى الذين اعتادوا جلوسي منفرداً، ولم يروا قبل اليوم تلك البلوى التي هبطت عليَّ من السماء مجاناً.

ـ يُقال إنَّ الوقت يطير برفقة النساء، لكن مع هذه السيدة فالوقت ميتٌ بالسكتة القلبية. والجدير بالذكر، لا شيء فيها يشدكَ إلى الحديث معها. والأغرب، أنها تفعل ما تفعله دون التفاتة واحدة إليَّ، وكأني رجل غير مرئي. وحتى اللحظة، لا يبدو أنَّ هناك بوادر في الأفق تنبئ بأنها ستشعر بوجودي عما قريب. لذا فضلتُ البقاء صامتاً. لكن إلى متى؟ وكلانا يبعد عن الآخر مسافة الطاولة فقط. ذهبت بيَّ الظنون إلى أنَّ المسألة كلها تعود إلى بقايا حب مضى. وما أراه أمامي ليس إلا مشهداً يصعب عليَّ فهمه ما لم يكن الحب سبباً لحدوثه.

ـ كنا شخصين يمثل الواحد منا نقيضَ الآخر؛ الأول متفائل، والثاني متشائم. لم أكن أعلم أنّ هناك امرأة من هذا النوع في مجموعتنا الشمسية! لذلك قررتُ أن أقول شيئاً ما في محاولة مني لمواساتها بكلمات لطيفة قد تخفف من حزنها. فالحزن ليس حافزاً لفهم العالم من حولنا. قلت لها:

ـ كم من الأشياء الجميلة يمكن أن تتحقق لو كنا نبتسم.

لم تبدِ أيَ ردّ فعل، إنما تناولت فنجان قهوتها وتمتمتْ بكلمات لم أفهمها! خيِّل إليَّ أنها تسجل اعتراضاً على موقف ما. ورجوتُ ألَّا يكون موقفاً ضد حشريتي. ثم فجأة، ومن غير توقع منها، رمقتني بنظرة وتبسَّمت شفتاها قليلاً! ساعتئذٍ، شعرتُ أنها راغبة في الكلام؟ ربما قررتْ ألَّا تغادر المقهى دون أن تبديَ بعض التصرف اللائق، تجاه رجل تحمَّل تصرفاتها بلطف طوال هذا الوقت. لكنها لم تفعل كما تصورتُ الأمر! إنما نهضت من مكانها وخاطبتني بصوت خافت: إني آسفة. انتظرت المزيد، لكن لم أحصل على شيء. ثم استدارت راحلة من أمامي بخطى سريعة! وهكذا كان، افترقنا دون كلمات، باستثناء كلمة واحدة «إني آسفة».

ـ أحسستُ بارتياح لدى مغادرتها، وتابعتُ خطواتها بنظري إلى أن تلاشت تماماً. لكن بقي أمرُها مدار حديث الزبائن. أما بالنسبة إليّ، فلم يبقَ شيء من أثرها لولا أنها لم تنسَ كتابها وهاتفها الخليوي. لحقت بها. جلتُ بنظري على امتداد الشارع، راصداً الأشكال التي تقاربها. لم أرها! وانتهى بي الأمر إلى اللاشيء. نظرتُ إلى الكتاب لأرى قيمة ما أحمله في يدي، وإذ بعنوانه يشدني إلى قراءته «مئة سنة من الحب» للمؤلفة رزان ـ الحائزة على جائزة نوبل ـ وفي أسفل الغلاف، دوِّن رقم هاتف، وأظنه رقم هاتفها المنزلي كونه يبدأ بالرقمين صفر واحد.

ـ في المساء، لم يتحقق ما كنتُ أصبو إليه! أي، أن تتصل تلك السيدة. وكان غريباً ألا تَفعل لتسأل عن هاتفها؟ ولا أدري لماذا لم يحدث شيء من هذا القبيل؟ يا لها من امرأة غريبة الأطوار! ألم تكتشف حتى الآن أنها فقدتْ شيئاً ما؟ وتقطيعاً للوقت، شغلتُ نفسي بترتيب مكتبتي الصغيرة. لم أسمع شيئاً عما يجري في الخارج. بصراحة، لم أسمع صُراخاً ولا عراكاً ولا شيئاً من هذا القبيل. إذ جل انتباهي كان منصباً على الاهتمام بالمكتبة. ودون أية فكرة، طُرق الباب بقوة وكاد ينخلع من مكانه! أيُّ ضيفٍ ثقيل هذا؟ قلتُ ذلك بشيء من الغضب! وتوجهتُ نحو الباب، لم أفتحه كما يجب، بل شِقاً صغيراً لأرى من هناك، فرأيتُ آسيا؟! كانت والحق يُقال، في هيئة مزرية وكأنها لم تعد تصلح لشيء! شعور فظيع انتابني في تلك اللحظة. كيف لا، وأنا أرى آسيا ابنة الجيران في الطابق الرابع قد تحوَّلتْ من فراشة إلى شيء بغيض. يا له من مشهد مؤلم تتشاءم النفس منه.

ـ صعدنا درجات السلم. كنا خائفين ألَّا نصل في الوقت المناسب. استأنفنا الصعود على عجل. وحين دنونا من باب المنزل المشرع، عرفنا أننا قد وصلنا متأخرين بعض الشيء. لقد فاتنا الكثير، فزوج والدتها ممدد على الأرض. مما ينبئ أنه سقط فاقداً وعيه. ويخيَّل للناظر إليه أنه نائم. (يستحيل الحكم على البشر وهم نيام). أما والدتها، فإنكَ لا تحتملُ أكثر من نظرة واحدة إليها! فمنظرها لا يخلو من الدماء.

ـ اتصلتُ بالطبيب وقمتُ بواجب الجار تجاه جاره. لكني كنتُ أجهل تماماً أن والدة آسيا قادرة على صد زوجها المخمور قبل الآن. ولا مبالغة في القول، إنَّ زوجها سيئ السيرة، وقد اعتاد على ضربها في كل مرة يشرب فيها الخمرة حتى الثمالة، لذلك قل ما شئتَ فيه وخذ راحتك على الآخر.

ـ بعد ساعة من الزمن، صفا الجو قليلاً. بيـد أن آسيا قد غاب عنهـا بريق الابتسام وإشراقة العينين. لا تزال حزينة، وهذا الحزن لا يحتاج إلى تفسير. خطت ناحيتي بضع خطوات. ابتسمتُ لها. فلم تقدر على الابتسام، بل بصوت خفيض شكرتني: شكراً يا عماد... وعذراً منك.

ـ بادرنا معاً ناحية الباب بخطوات متمهلة، ملائمة تماماً لحالتها النفسية. وأثناء سيرنا، تلقيتُ إشارة منها تدل على متابعة السير وكأنها تبحث عن مكان أكثر سرية لتدلي بشيء ما. نزلنا درجات السلم. وهناك:

ـ أيمكنني أن أستعير منكَ بضع دقائق يا عماد؟

ـ لا مشكلة أبداً.. خذي ما شئتِ من وقتي.

كنا نهبط السلم درجة درجة. وكل درجة تستغرق منا وقتاً. إذ كنا نتوقف عليها قليلاً.

ـ أتعلم يا عماد، لماذا تأخذ حياتي هذا المنحى الكئيب... ولماذا تتداعى الأشياء الجميلة من حولي؟

ـ لماذا يا آسيا؟

ـ من سوء حظي أني ولدتُ أنثى لا ذكراً... ولو كان الأمر بيدي، ما كنتُ لأرغب في شيء كهذا أبداً...

ـ طريقة قديمة في التفكير... إياكِ والتشبث بها!

ـ لست أنا من يفكِّر... بل أهل الحي... قل لهم ولا تقل لي.

الصفحات