أنت هنا

قراءة كتاب أحلام

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أحلام

أحلام

كتاب " أحلام " ، تأليف سالمين القذافي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

ريشة

ضمت معطفها حول نفسها إذ شعرت بعيني هذا الرجل الذي كان يحمل أدواته الخاصة بالتنظيف.. يبدو أنه يعمل هنا في تنظيف الحديقة جاء مبكراً كعادته قبل الازدحام... تسألها ماذا تفعلين في وقت مبكر هنا. تلتفت بعيداً عنه لتخفي معالم التعب على وجهها والشحوب الذي يعلو ملامحها حيث أرهقها السهر وأعياها التعب والتفكير محاولة أن تخفي عينيها المتورمتين من البكاء جراء مشوار عمر نسف في لحظة... تلعن نفسها وتضع اللوم عليها وعلى عدم تصديق شكوكها التي بدأت منذ وقت مبكر لتصحو بعدها على زوج يطلب منها البقاء مع زوجة أخرى أو الرحيل.. بكت لحظها العاثر ومشوار بدأ بثقة وحب لينتهي بخيار مشروط. تذكرت صوته يعلو وهو يناديها: إلى أين أنت ذاهبة في هذا الوقت؟

خرجت مسرعة لا تدري أين تذهب وإلى من تلجأ وهي التي صادرت آراء الكثيرين منذ أعوام وأغلقت قلبها عليه لتربط مصيرها به. تذكرت كل هذه الأمور بحزن على ما مضى من عمر، نظرت حولها لتلفح وجهها الجميل هبة هواء باردة تحملها نسمات الصباح، وبداية يوم جديد لتتحرك وريقات أسقطها الزمن مع هذه النسمة ومن بينها ريشة ناصعة البياض شدت انتباهها لتعانق نظراتها التائهة، وترقب حركتها لتطير منفردة مع الرياح قليلاً عن سطح الأرض فيتغير مكانها لتأخذها نسمة أخرى وتحشرها في شجيرة صغيرة أمامها وهي تنظر إليها بتمعن وألم... تنظر إلى ذلك الغصن الصغير الذي عرقل حركة طيران الريشة. لتشعر هي بأن هناك ما جُرح في داخلها. شيء ما فُقد وهو الأمان الذي ظنت أعواماً أنها وجدته. راحت دموعها تنهمر من عينيها لفقدها الإحساس بما نمّى ثقتها برجل ملأ دنياها وصار حياتها. كانت متعبة تجرّ قدميها بثقل ولا تدري إلى أين تذهب، فقد نال منها التعب وأضناها التفكير وأعياها الانتظار لتخرج من بيتها إثر صدمة شلّت تفكيرها. أما كيف وصلت إلى هذه الحديقة فلا تدري سوى أنها جلست على أول مقعد وجدته..

كان النهار في ساعاته الأولى والشمس تلون الأرض فتصحو النباتات الغارقة في صمت الليل، والتي ما زالت تغازلها قطرات الندى لتصحو. جلست على المقعد وكل ما تسمعه من أصوات يأتي من العصافير التي اتخذت أعشاشاً لها في هذه الأشجار العملاقة، وبعض أصوات لأقدام المارّة المسرعين إلى أعمالهم تأتي من بعيد. جلست تسترجع صوراً لحياته وما كانت تتوقع أن يحدث لها هذا يوماً، وتفكر في لحظاتها الماضية وقلبها يتصارع فيه الألم والحب والكراهية.

نظرت إلى السماء فشعرت بأنها تغوص في أعماقها وتعلو لتنزع نفسها من تلك الساعات التي ما كانت تظن يوماً أنها سوف تأتي عليها وتعيشها من جديد. والحديقة تصحو من حولها وهي تشعر أنها تذهب إلى البعيد ما بين الغفوة التي يحتّمها التعب والحزن الذي تمثله ساعاتها السابقة. نظرت مجدداً إلى السماء لتخرج تنهيدة تحمل مرارة وحزناً وشكوى ولتنحدر دمعة على خدّها ترسم آهات بحجم الأسى الذي سببه لها رفيق العمر. أغمضت عينيها لتتذكر لحظة الانتظار في ساعة متأخرة من ليلة البارحة ليعود زوجها مع ساعات الفجر الأولى ويسألها لماذا تنتظره حتى هذه الساعة؟؟ فقالت لأنك أصبحت تتأخر كثيراً وهذا في الحقيقة ما يقلقني، فلماذا هذا التأخر وأنت الذي لا تحب التأخر في العمل وشعارك دائماً الدنيا تنتهي والعمل لا ينتهي. فأجابها ببرود: عمل عمل..

قالت هل هناك طارئ جديد في عملك؟ فصرخ بصوت عالٍ وراح يتكلم كأنه قنبلة انفجرت. وهو لا يصمت أبداً... وتصمت هي لتكون هنا في مثل هذا الوقت وفي هذه الحديقة.

تعود من سرحانها المثقل بالألم على صوت عجلات لعربة كان يجرها رجل كهل يبيع الكعك المحلى وصنوفاً مختلفة من الحلوى وبالونات ملونة. وهو بمرح طفولي يستقبل الصباح بقول: يا فتّاح يا عليم. ويبدو أنه يبكر في القدوم إلى الحديقة ليختار مكاناً مناسباً له قبل الجميع، ووجهه الهزيل وعيناه الغائرتان يحكيان مرارة الحياة وقسوتها معه. يمرّ أمامها، تنظر إليه فيحييها بإيماءة من رأسه وهي تنظر إليه صامتة وفي أعماقها أسى وحزن، فتروح ترسم لوحة مشوارها كاملة لتصحو على خيار يجرح كبرياءها كأنثى. إنها لا تقبل أبداً أن تكون امرأة ثانية بعدما كانت سيدة القصر. نظرت لتجد نفسها تبحث مجدداً عن الريشة التي ما زالت عالقة في الغصن الصغير تنتظر دفعة صغيرة من الهواء كي تطير... ها هي نسمة هواء لكنها لم تحرك الريشة... لا... لحظة... طارت الريشة بعيداً هذه المرة لتستقر على الأرض وتلامس العشب الأخضر في أرض الحديقة. استقرت، كانت تتبعها بنظراتها لتربط نفسها بها ومن خلالها. ها هي الريشة بدأت تعلو شيئاً فشيئاً مع حركة الهواء الدوّارة وهي تنظر ودمعة متحجرة في عينها ترفض الخروج. طارت الريشة عالياً في السماء لا تعرف كيف أو أين تتجه أو كيف تستقر؟؟ تعود بنظرها من جديد إلى الأرض وإلى نفسها لتشعر بأن الأقدار لا تزال تلعب لعبتها معنا دائماً، وتحدد خطوات الذين يمرون في هذه الدنيا. وتدرك أنها كريشة ضعيفة أتعبتها السنون واختارت طريق الحرية بدون قيد أو شرط لتنطلق، ولكن من أجل هدف.

هذا ما جال في خاطرها في هذه اللحظة لتقرر متابعة المشوار بعد أن لملمت أحلامها وروحها لطرق باب جديد دون أن تدع الرياح، رياح الأيام تعبث بها مجدداً وهي تنظر إلى الحديقة التي بدأت تصحو مع وجود الباعة والمارة فالحياة تستمر.

الصفحات