أنت هنا

قراءة كتاب نساء في مهب الحب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نساء في مهب الحب

نساء في مهب الحب

كتاب " نساء في مهب الحب " ، تأليف غيداء طالب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ووما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

رن هاتفه سريعاً واصطفت على شاشته أرقامٌ أوروبية التسلسل، مجهولة العنوان، فكانت هي... صوتاً غارقاً في الأنوثة، كسول الوقع، ذا لثغة مثيرةٍ بحرف الراء، ولكنةٍ عربيةٍ بإضافاتٍ غربية...

كان في أسلوب تعارفهما الهاتفي الكثير من الانجذاب الواضح دون تفسيرٍ محدد، أو ربما على قاعدة «الأذن تعشق قبل العين أحياناً»... ربما استهواه منذ البداية خجلها المرتبك، أو غموضها الآسر. فبدت له فتاةً على قدرٍ كبيرٍ من العمق والحزن في آنٍ واحد. أما هي فلم تتفاجأ بذكائه وقوة حضوره. كان يحدثها كما دائماً، بثقةٍ واضحة، ويستعرض على مسامعها بين الحين والآخر بعضاً من سخريته المحببة.

كان إحساسها به يقظاً منذ اللحظة الأولى، إحساساً يفوق الإعجاب والصداقة وربما الحب أيضاً. كأن تشعر أنك أمام شخصٍ تريد أن تمضي الوقت بأسره إلى جانبه، أو أن تسهر طول الليل في أحضان صوته. كأن تشعر أنك جاهز لأي مغامرةٍ معه، مستعدٌّ لأي حتفٍ على يديه... كأن تستشعر الارتياح التام في حضرته، والاستمتاع التام بحديثه، فإذا ما سكت أوجعك صمته، وإذا ما رحل استعمرك الفراغ.

هكذا كانت تشعر تماماً كل مرةٍ كانت تهاتفه فيها، إنه شخصٌ قريبٌ منها حد اللمس، مع أن المسافات التي تفصل بينهما تتعدى حدود الصحارى والبحار. شعورٌ قد يصعب وصفه ويتعذر فهمه، ولكنه يتوغل عميقاً بين أوردتنا، يتجذر فينا رغماً عنا ويستشري كالوباء في كل ذراتنا...

إنه الحب... صوتٌ ذو ملامح دافئة، يأتيها كل صباح ٍ ممتلئاً بشمس الصحراء، فيحملها عبر الهاتف، ويجول بها في عوالم لا حدود لها. يجتاز بها جسوراً شاهقة العواطف، باذخة الهوى، ويمشي بها على رمالٍ لن تطأها يوماً سوى أقدام العاشقين... فهل يمكن للمرء أن يصحو ذات صباح ويجد نفسه مغرماً بشخصٍ لم تره عيناه، ولم تلمسه يداه؟

شخصٌ يهوى لعبة العواطف المتقاطعة، ويعرف كيف يملأ مربعاتها الفارغة بكلماتٍ وردية اللون، وموسيقية الوقع... فكم يلزمها من التمارين كيما تجاري ذكاءه العاطفي؟ وكم يلزمها من الثبات كيما تقاوم صوته حين يلفظ اسمها بنبرةٍ رجوليةٍ آسرة؟

أما هو... فلم يكن يبذل أي مجهودٍ إضافي كي يبقي أشواقها في حالة تأهبٍ مستمر. كان عفوياً جداً، وصريحاً جداً. وعلى الرغم من الكلام المعسول الذي كان يرشه من وقتٍ لآخر على طبق حنينها الساخن، إلا أنه لم يكن يبالغ في التعبير عن مشاعره نحوها، أو في التغزل بجمالها مثلاً... كان يعلم تماماً أنها فتاةٌ عادية الشكل ومألوفة الملامح، لكنه كان يشعر أنها دافئة الروح، عميقة الفكر وراقيةٌ بدرجة ممتاز... لم يتخيل يوماً أنها كبقية النساء مثلاً، قد تتوسط حلقة نميمةٍ صباحية، أو تنتظر دورها كي تقرأ لها إحداهن حظها المتواري في فنجان قهوةٍ على الطريقة العربية. كان لصورتها في عينيه بريقٌ يختلف عن كل ما لمع أمامه ذات يومٍ في وجوه من عرف من نساء، مع أنه لم يلتقها بعد... لكنه كان يستشف في صوتها براءةً ملائكيةً عجيبة، لا طاقة له على مقاومتها...

كان يشعر أحياناً أنها أوروبية الطباع إلى حدّ ما، غربية العقلية ربما، ولكن بدفءٍ شرقي الملامح، وهذا سببٌ مباشر في انجذابه نحوها. فلطالما أعجبه ذلك المزج اللذيذ الذي كان يضفي على شخصيتها بريقاً فاتناً.

استمرت بينهما لعبة العواطف المستترة أياماً وشهوراً... كان أسلوب التلميح سيد الموقف، وكأن كلاً منهما ينتظر التصريح من فم الآخر كيما يجود هو باعترافاتٍ أثقلته. كانا يتحادثان يومياً عبر الهاتف أو عبر الانترنت، وكلما طال بينهما وقت الحديث، أسرع الشوق في الفتك بقلبيهما بعد انتهاء المكالمة. وهكذا... حتى استطاعت هي ذات يوم أن تضرب على وتر أشواقه، وتستغل نقصاً موقتاً في مناعته العاطفية، فانتزعت منه اعترافاً برغبته العميقة في الارتباط بها...

اعترافٌ أثلج قلبها ودغدغ غرورها الأنثوي. ومع أنه كان متوقعاً إلى حدٍّ ما، إلا أنه أربك تفكيرها، وشغلها بعض الشيء عن لوحاتها وريشتها... هي التي كانت تلجأ إلى ألوانها كلما أتعبها التفكير، لم تعد تجد فيها اليوم أي سكن ٍ لها... لم تجد فيها سوى بعض ظلالٍ ذكورية، قد تكون بداية لوحةٍ صاخبة ستحمل ذات يوم ٍ توقيع عينيه.

اتفقا أخيراً على لقاءٍ قريبٍ سيجمعهما للمرة الأولى وجهاً لوجه، وقلباً لقلب. سيذهب إليها أخيراً وسيلتقيها للمرة الأولى، على أرض الغربة التي لا يعرفان متى الشفاء منها، فمتى كان للغربة رغبةٌ في جمع شمل العاشقين؟ سيذهب إليها أخيراً، على الطريقة الشرقية، كما يذهب عريسٌ إلى عروسٍ انتظرته دهراً بأكمله...

تباطأت وتيرة الأيام التالية وهما مأخوذان بالانتظار. كان في التأشيرات الأوروبية بعض العراقيل عندما يتعلق الموضوع بجواز سفرٍ عربي. فكم من العمر يُهدَر خلف أبواب المهجر، وكم من الجهد يراق في سبيل ختمٍ أجنبي...

أرهقها انتظاره، وأتعبها التفكير في لهفة لقاءٍ أول. كانت تهرب من التفكير فيه، إلى رسم ملامحه وتدوين أسرار ابتسامته، حتى أنهت لوحته في وقتٍ قياسي وكأنها كانت تجمع أجزاء وجهه في لعبة «بازيل». كانت تأنس بوجوده معها، في غرفتها، بين أشيائها الحميمة، وإن داخل إطارٍ خشبي... تجالسه كل مساء، تروي له حكايات طفولتها اليومية، وتنتظر أن يبادلها هو أيضاً مغامراته الصبيانية. ففي عينيه شقاوةٌ مخضرمة، تختصر ماضيه الطفولي الحافل، وتعيده في لحظةٍ طفلاً متمرداً، يملؤه الجنون...

أخيراً... ابتسم لها القدر معلناً قدومه. سيأتي أخيراً... يا كل الشوق الذي اختمر طويلاً في كل شرايينها، سيأتي... يا كل أحلامها التي عانقت ابتسامته ليالي بأكملها، سيأتي... غداً، سيأتي. وسترسم الحياة لها هذه المرة لوحةً ثنائية الملامح، وبألوان ربيعية.

الصفحات