أنت هنا

قراءة كتاب أحاديث الثلاثاء - كتابات لمثقفين عراقيين -الجزءالثاني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أحاديث الثلاثاء - كتابات لمثقفين عراقيين -الجزءالثاني

أحاديث الثلاثاء - كتابات لمثقفين عراقيين -الجزءالثاني

كتاب " أحاديث الثلاثاء - كتابات لمثقفين عراقيين - الجزءالثاني " ، تأليف عطا عبد الوهاب ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

تجربتي مع الثقافة والترجمة

نقاط تحول

أمجد حسين

في البدء، لا بد من الاعتذار عن رجوعي المتكرر لكلمة أنا في حديثي اليوم، بيد أن عذري قائم على أساس ألا مجال لفصل الذات عن العام في سياق كهذا·

أنا من عائلة بغدادية متوسطة الحال اقتصادياً، أو منتمية إلى الطبقة الوسطى، غير أن السمة التي عرفت بها هي أنها عائلة قرِّيئة (خصوصاً قبل اجتياح التلفاز ووسائل الاتصال الأخرى)· فكانت دارنا مليئة بالكتب المتنوعة التي لم يكن سيل تدفقها لينقطع، بما في ذلك المجلات الأسبوعية والشهرية مثل (الرسالة)، (الأديب)، (روز اليوسف)، (مسامرات الجيب)، (النفير) وغيرها، حتى صارت أشبه بمكتبة عامة يستعير منها الأقارب والجيران·

وفي هذا الجو شرعت منذ سن مبكرة بقراءة الروايات المشهورة يومذاك (أربعينات القرن العشرين) مثل (الأميرة فوستا)، (باردليان)، (الفرسان الثلاثة)، (بائعة الخبز)، فضلاً عن (آرسين لوبين) ومثيلاتها·

ثمة سمة عائلية أخرى: كان الفكر العلماني هو السائد، فمع أن والديَّ ملتزمين بالفرائض الدينية العامة، إلا أنهما لم يمارسا ضغطاً على أبنائهما باتجاه الالتزام الديني المفرط· صحيح أن الوالدة كانت تصحبنا أحياناً لزيارة ضريح الإمام موسى الكاظم، حيث كنا نقلد ما كان يفعله الكبار داخل الحضرة إلا أن متعتنا (ونحن صغار) كانت في التوجه بعد الزيارة إلى سوق الكاظمية لتناول كبابها الشهي·

فضلاً عن هوسنا بالقراءة، كان لنا ولع بالموسيقى عن طريق الراديو والغرامفون، بل أن أحد إخوتي، وكان موظفاً في مديرية السكك الحديد، استعان بمدرس سويسري الجنسية (كان أستاذاً في معهد الفنون الجميلة) ليعلمه عزف الموسيقى الكلاسيكية على آلة الكمان· فكان المدرس يأتي إلى دارنا مرة في الأسبوع لذلك الغرض لقاء أجر كان يقضم جزءاً لا يستهان به من راتب أخي· كما أن ولع أفراد العائلة بالموسيقى أدى إلى نشوء تكتلات متنافسة: الوالد يناصر المقام العراقي، وكتلة تتحالف مع أم كلثوم وعبدالوهاب، وأخرى تجد مثلها الأعلى في أسمهان وفريد الأطرش، ثم ائتلف الجميع تحت راية (فيروز) دون التخلي عن الولاءات الأولى·

لعل الموقع الجغرافي للسكن كان ذا تأثير أيضاً· فمن الكرادة الشرقية إلى العيواضية (العلوازية) إلى الأعظمية ثم الشالجية (دور الضباط، أي كبار موظفي مديرية السكك)· ففي العيواضية كنا نتطلع إلى دور كبار السياسيين على ضفة دجلة ونحظى برؤية الملك غازي متجولاً بسيارته المكشوفة (دون أن تلاحقه الشائعات بأنه كان يفعل ذلك تبختراً أمام أعين صبايا الحي!)· وفي الأعظمية (طيلة عقد الأربعينات) حلت عائلة العقيد كامل شبيب في دار مجاورة لنا فتوثقت علاقة العائلتين حتى إن عائلته نقلت إلى دارنا (قبيل تنفيذ حكم الإعدام به) الكثير مما يخصه (مثل سيفه ونياشينه وبدلاته العسكرية) خوفاً من مصادرة السلطات لها خصوصاً وأن جارنا الآخر كان مديراً للشرطة هو عطا عجاج·

نأتي الآن إلى نقطة التحول الفكري الأولى في حياتي: كنت طالباً في الصف الثالث المتوسط (التاسع حسب التسميات الأخرى) في ثانوية الأعظمية· كنت أصغر الطلاب سناً، وربما أكثرهم طاعةً وأدباً· كان م· الجبوري مدرساً لمادة الدين· وذات يوم كان يشرح الآية القرآنية: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً وآنذاك تحرك في داخلي فضول لاستيعاب المدلول المطلوب، فرفعت إصبعي، فتساءل الأستاذ: شكو؟

قلت: بس هذا حرام، أستاذ

- شنو؟!

- حرام·· لأن هناك في الأساس نية لإنزال الهلاك بالقرية، فكانت الوسيلة هي نشر الفسق الذي مارسه أمراؤها المعينون لهذا الغرض·· إذن، ما ذنب أهل القرية الذي برر تدميرها عن بكرة أبيها؟

لن أنسى، رغم مرور ما يزيد عن ستين عاماً، ردة فعل المدرس·

فقد تجمعت قسائم وجهه وصار فكاه يصطكان عصباً، ثم جاء صوته فحيحاً: إطلعْ·· كافر·· زنديق·· إطلع بره! وكانت تلك المرة الوحيدة التي طردت فيها من قاعة تدريس طيلة حياتي· وحينما غادرت الصف مذهولاً طفقت دموعي تسيل، ثم بدأت مشاعري، شيئاً فشيئاً، تتحول من الألم والمذلة إلى الغضب الإيجابي، واتخذت مع نفسي قراراً مفاده: إسمع يا أمجد: إذا كان أستاذك المتخصص لم يفلح، فعليك أنت، وحدك، أن تبحث عن الحقيقة حتى تقتنع وهذا ما شرعت بتطبيقه على امتداد حياتي·

بعد إنهائي التعليم الثانوي (الفرع الأدبي، الأقرب إلى اهتمامي والأرحب مساحة في نظري يومذاك) بمعدل عال يؤهلني للدخول إلى كليات (الحقوق) و(التجارة) و(الآداب) فضلت (دار المعلمين العالية) لسببين: سمعتها الثقافية الواسعة (في الأدب على وجه الخصوص)، ووجود عدد كبير من الأساتذة البريطانيين في قسم اللغة الانكليزية فيها، وهو القسم الذي كان يجتذبني أكثر من غيره·

الصفحات