You are here

قراءة كتاب نساء على المفارق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نساء على المفارق

نساء على المفارق

في كتاب "نساء على المفارق" للكاتبة والإعلامية الفلسطينية ليلى الأطرش، تحدثت ليلى الاطرش عن ثمانية نساء قابلتهن في اثناء تجاولاتها ورحلاتها الصحفية ، تعددت الحكايات عن نساد اما مكافحات او منهن من كان مصهوراً من قبل مجتمع وتقاليد وضحايا لاعتداءات من انواع متع

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
الماسة السوداء
 
التقيت مريم عبد الدايم في مدينة الجسور، بتسبرغ الأمريكية خريف 2008· مدينة يقطع سكانها ألفا وسبعمائة جسر إذا خرجوا منها و720 إذا تجولوا فيها·
 
عينا مريم حجرا زفير إفريقي حملتهما موجتان إلى شاطئ غريب، وجلدها تبر يلتمع في تربة خصبة بكر إذ تلفحها أشعة الشمس·
 
شعرها قلائد من مئات الجدائل الرفيعة ضفرتها أمها على شرفة تطل على المحيط الأطلسي·· تحت خاصرة ذلك الجزء الغربي من القارة السمراء تطل على الأطلسي، وقبل أن تضيق وتنكمش في خليج يبدأ عنده نصفها الجنوبي··· تحدِّد مئات من الجدائل الرفيعة وجه شابة إفريقية، امتزجت فيها دقة ملامح أهل الشرق من القارة السمراء، الصومال وإثيوبيا، مع اللون الداكن للقبائل الزنجية في وسطها··
 
تجمع مريم تاج ضفائرها في دبوسين من مرجان بلون ثغرها الواسع، قوامها رمح لم تستطع أرض إفريقيا أن تحجز انطلاقه، فمضى سادرا خارج الحدود يبحث عن ذات يحققها·
 
كانت نصائح الوالدة تنعقد مع نهاية كل ضفيرة·· تربطها بخشية الأم من مجتمع غريب، لا تشبه قيمه ما تربت عليه مريم·· وتعرف أن فضاء المياه اللامتناهي سيحمل صغيرة كبرت، من حضنها ورعايتها إلى عالم بعيد مشوب بالخوف وخشية القادم باختلافه ديانة وفكرا وحرية شخصية··
 
ساحل الكاميرون بلاد ممتدة، اختلطت فيه الأجناس والمذاهب، وخبرت فيه مريم طفلة امتزاج العرق واللون وتعدد الديانات، كبرت بين عمال وتجار وأصدقاء جمعتهم أملاك جدها من الغابات الكثيفة· فالجد نقيب تجار الخشب في الكاميرون، وأكبرهم سنا وثروة، فشبَّت مريم تركيبة فريدة من الاعتدال وقبول الآخر·· ربّتها خادمة مسلمة بيضاء، وتعلمت في مدارس تبشيرية مسيحية مختلطة، وصادقت طفلة أترابا بيضا وسودا يسكنون في بيوت العمال، وزاملت طلابا مسلمين ومسيحيين ويهودا ومن ملل أخرى دون أن تعي الفروق·· وعلى مائدة جدها عُقدت صفقات الأخشاب بلغات غريبة ورجال من أصقاع بعيدة، وكبرت وتعلمت بينما أشجار الأبنوس والتيك في تلك المزارع تتحدى قطعها بنمو لا يتوقف·
 
صحبتني مريم وثلاث من زميلاتها في جولة إلى المدينة بعد انتهاء المؤتمر، وكان لا بد من تجربة الإنكلين (Duquence Incline)، حيث جادة غراند فيو أفنيو أو المنظر الأوسع·· ونستقل قطارا صغيرا يتسلق جبل واشنطن الشاهق·
 
يشهق زائر بتسبرغ حين يتوقف القطار عند القمة، ويدرك لماذا خرَّ السكان الأصليون سجودا لقدرة الخلق يوم تكحلت عيونهم بما رأوه أول مرة، تمثلوا الروح العظيمة تختار المكان الأجمل في طبيعتهم البكر لتسكنه، فغنوا للأرض أشعارهم، ومن قوتها استمدوا وصاياهم العشرة، عن الروح والإنسان والخير، وعن ماء وسماء وخضرة لا متناهية تحيط أنهارا ثلاثة·· مونونغاهيلا Monongahela وألليغهاني Alleghany وأوهايو Ohio اختارت أن تلتقي وتتحد في نقطة واحدة·
 
دنَّس المستوطنون طبيعة عذراء فقاومتهم، وردت عدوانهم بأن فتكت بهم، وحين خففوا بأسهم عليها بدأت تستعيد أَلَقَها، وتُجدّد شبابها في غزارة الأمطار وخصب ترابها·· خضرة تقاوم اقتحام البناء والجسور فتُهْزَم· وتظل تحنو وتحتضن ضفتي الماء بخضرة كثيفة·
 
وحده جبل واشنطن ظل شامخا متحديا، وشاهدا على روعة الخلق·· وقف انحداره الشديد مانعا ضد اقتحامه·· فقط سمح لخط القطار الضيق أن يخترق ثناياه، ليشهد كل من يستقله على ما كان يوما مدى آسرا، فريدا لا يشبه مكانا آخر·
 
ما زالت تلك الإطلالة ساحرة، منظر سجدت له قبائل السكان الأولين، أذهلهم ما رأوه فتوصلت فطرتهم إلى آلهة تستطيع خلق هذا الجمال، تمثلوها في الطبيعة وقوتها، الأرض والماء والريح العاتية· صلّوا لها حين تجمح أو تهدأ، ثم جاء الفرنسيون على قوارب تحمل طمعهم وتحارب على حصتها من عالم جديد· هو الجمال البكر الذي عهَّره القادمون حين أنهكوا أرضها ولوثوها برغبة الاشتهاء والثروة والاغتصاب ونهم لا يرتوي، رأوا في حمرة تراب قدَّسه الأولون حديدا، وفي لمعان ظنه الهنود الحمر انبثاق النور من طبيعة متقلبة مجرد فولاذ وصناعة وثروة، تصادم المقدس والدنيوي·· هزمت واندحرت قصائد تقدس حمرة الأرض وتتغنى بلمعان شعرها·
 
امتهن الباحثون عن الثروة هدوء المكان وجلال الصمت، بنوا مدينة بتسبرغ ثم جعلوها فاسقة بشهواتهم، قذرة بإفرازاتهم، فشاخت وتلوثت·

Pages