You are here

قراءة كتاب نساء على المفارق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نساء على المفارق

نساء على المفارق

في كتاب "نساء على المفارق" للكاتبة والإعلامية الفلسطينية ليلى الأطرش، تحدثت ليلى الاطرش عن ثمانية نساء قابلتهن في اثناء تجاولاتها ورحلاتها الصحفية ، تعددت الحكايات عن نساد اما مكافحات او منهن من كان مصهوراً من قبل مجتمع وتقاليد وضحايا لاعتداءات من انواع متع

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
تذكرني القصيدة الأشهر في حياة الهنود الحمر طريق الدموع بذاك الطريق هناك في مدينة القدس القديمة، حيث حمل الناصري ثِقَل صليبه بلا إثم، يجرُّه بحزنه ودمائه إلى جبل الجلجثة ليصلب· وُيسْحب المواطنون الأصليون مقيدين مثله بغير ذنب، إلا أنهم ولدوا على أرض لم يطأها أحد قبلهم، ولم يعرف بوجودها غيرهم، وربٌ خلقها·
 
صرخ عيسى بن مريم إلى ربه إيلي إيلي لماذا شبقتني، إلهي إلهي لماذا تركتني، واقتنع الهنود الحمر أن الروح العظيمة لم تسمع صراخ استغاثتهم ونداءهم، قرعوا لها طبولهم حول النار المقدسة، ولكن حارسة قبائلهم وأرضهم تخلت عنهم وتركتهم يساقون بذل وقهر وموت في محنة طريق الدموع·
 
لم يهتم القادمون الأوروبيون إلى بنسلفانيا وهم يتسابقون على ثروات العالم المُكْتَشَف بتوازن الطبيعة·· وأعماهم التعطش للثروة ونهم التسابق عن جمال ظل يخشع لخالقه في سكون·· دمروا سلامه واستباحوا نقاءه وجلال سكونه الأزلي·· وألقوا بقاذوراتهم في وجه كل شيء، دنسوا الأرض والماء، ودوى صخب وهدير المحركات، لوثوا أنهارا ظلت تجري منذ كان البدء·· تحتضن أسماكها وتكاثرَها في سلام فتغطي صفحة الماء·· وتتقلب بين هدوء وعنف لتصل البحيرات الكبرى وخليج المكسيك·
 
غطت سماء بتسبرغ غيوم المصانع وسوادها، وأعلنت مدينة منكوبة بالتلوث·
 
وبتسبرغ واحدة من أكبر مدن ولاية بنسلفانيا وتتصل بنيويورك·· هي مدينة التنوع والاستعراض والجامعات والمطارات والفرق الرياضية والشواذ·
 
وتمتزج الجنسيات وتضيع الأصول والأعراق، ففيها من كل بقاع الأرض قاطن مقيم، سكانها خليط من أمريكيين وأفارقة وجاليات تَكْبُر أو تَصْغُر، من البلاد العربية وإيران وباكستان والبرازيل وبريطانيا وبلغاريا ومقدونيا والصين وفرنسا وألمانيا واليونان والهند وأيرلندا وإيطاليا واليابان واليهود وكوريا والمكسيك·
 
لا أحد يسأل عن الجذور في مدينة الاختلاف والقبول والتعايش أو يعيرها اهتماما، وكل ما بقي من الأعراق المهاجرة صور أسلاف علقها الأحفاد في لوحات وإطارات، بهتت واصفرت بالزمن·· صور لسفن الأجداد وهي ترسو على شواطئ هادئة خالية، وتهتز وتترنح بأحلام القادمين، أو كتب تروي تاريخا وذكريات عن رحلة الأسلاف ومعاناتهم في البحر والأرض، وعن صراعهم أو تحالفهم مع السكان الأصليين، وعن بطولة وصمود وانتصار على قسوة الطبيعة وهوامها ومستنقعاتها·· ولم تشر تلك الكتب القديمة إلى أنهم جاءوا إلى نقاوة الأرض بأمراض لم تعرفها قبلهم·· فتك الطاعون والبنادق بآلاف من سكان الأرض، فلم تكن أجسادهم قد ربت المناعة الطبيعية، وأرضهم نقية مثل أجسامهم لم تعرف العدوى أو توالد الجراثيم، هي أصقاع تجاوز اتساعها قدرة بشر خلقوا عليها، فلم تطأ امتدادها أقدام الإنس·· كانت القارتان أوسع وأكبر من آلاف لم يتجاوزوا العشرين من قبائلها·· فتك الداء القادم من القارات القديمة بالسكان الأصليين، ونجا حاملوه من قارات كوَّنت مناعتها باعتياده·
 
لا يحتاج المرء في بتسبرغ سببا ليجمع الناس إذا ما رغب الاستعراض، كل مستعد للحظة لهو عابرة·· يكفيه أن يبدأ بإطلاق ألعاب نارية فتسير المدينة وراءه هاتفة، أو يبدأ عزفا منفردا على آلة موسيقية أو مع فرقة، فيتحلق أهل بتسبرغ حوله راقصين، يهتفون ويغنون، ويعبّون حتى الثمالة لحظة عابرة لا تحتاج مبررا لارتشافها·
 
نتوقف مع مريم ورفيقاتها أمام بيت تيكفا ( المعبد أو السينيغوغ) اليهودي، أي بيت الأمل بالعبرية، وهو أكبر تجمع للشواذ والمثليات ومن يمارس الجنس من الجهتين· ويشترك في حفلاته الصاخبة الأعضاء وأصدقاؤهم وعائلاتهم·· لا حرج ولا رفض في مدينة لا تقتحم خصوصية أحد ما دام يحترم القانون·
 
كل شيء على المكشوف في مدينة تمددت على أكبر ميناء طبيعي حفرته طبيعة جامحة في عصور التكوين· وفيه سمحت الطبيعة لأنهارها الثلاثة أن تتحد في واحد، انسابت الأنهار من ذوبان الثلوج بعد عصر الجليد، تجري وتلتقي وتكمل مشوارها وتختفي في البحيرات العظمى، ممر مائي غيَّر التاريخ الأمريكي يوم حملت صفحته أشرعة المكتشفين، يبحثون عن عالم مجهول آخر فوجدوه في قارة جنوبية·· تقاسموا بلادا بدائية ثرواتها تفيض عن نهم كل الطامعين، وستكون أكسير حياة يدب في عروق قارات معروفة شاخت، ونضبت بطول الاستغلال·
 
أُطلُّ من قمة جبل واشنطون على المنظر الساحر، أقرِّب بالمنظار جبالا ومياها وبيوت غنى وجاه، تزحف وتختفي بين خضرة ممتدة، وتحوّل جمالا غير عادي إلى مدينة إسمنتية حديثة·
 
تطفو الأنهار الثلاثة فوق المعادن وقد استعادت صفاءها، وأرض بتسبرغ حمراء قانية بالحديد، فصارت مدينة الحديد والصلب، جسورها من معدنه، وبنايتها الرمز تجسد العرفان لمصدر الثروة ( مبنى الفولاذ الأسود) ( black steel building)·
 
لم يكن همُّ صيادي المال والمتسابقين على كنوز الأرض الاعتناء بطبيعة لم تسمع إلا صلوات سكانها، ولم يثقلها سوى سجودهم فوقها ولها، فتحوا المجاري إلى صفاء الماء بمخلفات كل شيء، البشر والمصانع·· وغطت السماء سحب السواد حدادا على موات أشجارها، وحين طغى البشر أكثر، نفد صبر الأرض، وردت الأنهار المقدسة عدوانهم، فتكت بأسماكها، وانتشرت بكتيريا لا ترحم أجبرت الناس على البقاء في بيوتهم مع مغيب كل شمس· وأُعلِنَت بتسبرغ مدينة التلوث·
 
كنت سأشارك في مؤتمر أدبي في جامعة شاتام في بتسبرغ صيف 2008· وكلما ذكرت هذا أمام أمريكي ألمح شفقة على حماستي، ويشيرون بلا تفاصيل إلى تلوثها! وشددت صاحبة السكن في ايوا حيث أقيم ضمن برنامج الكاتب المقيم على ضرورة أن أتجنب الأسماك تماما، ولا أشرب إلا ماء معدنيا·

Pages