أنت هنا

قراءة كتاب وحدها شجرة الرمان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
وحدها شجرة الرمان

وحدها شجرة الرمان

تنفتح رواية "وحدها شجرة الرمان" للكاتب العراقي سنان انطون؛ الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، بسردية حكائية بسيطة تفاجئك احياناً بانعطافاتها إلى صور حلمية فنتازية، متقطّعة بحسب خطوات السيناريو السينمائي، على مشهديات الموت الذي يلتهم قلب بغداد الم

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
كان باب المغيسل مفتوحاً· عبرت الممر وطالعتني إلى اليسار {كل نفس ذائقة الموت} بالخط الديواني الجميل ومعلّقة فوق الباب على الحائط الأبيض المصفرّ الذي فعلت فيه الرطوبة فعلها وسلخت قشوره في أكثر من موضع· كان أبي يجلس في الغرفة الجانبيّة على الكرسي الخشبي في الزاوية اليسرى يستمع إلى الراديو كعادته في فسحة من الوقت ينتظر فيها ما سيقذفه الموت نحوه بحسب مزاجه· الموت الذي كان أثره حاضراً في كل شبر من ذلك المكان بروائحه وذكرياته وتفاصيله حتى لكأنه كان صاحب المكان وكأن أبي محض موظّف يعمل لحسابه، كما كنت أفكر أحياناً، وليس لحساب االله كما كان هو يظن· 
 
الموت، الدائم الحضور في محل عمل أبي وفي أيّامه، كان على وشك أن يعلن حضوره من جديد لكن بقسوة وضراوة سيترك بهما وشماً على قلبه وما تبقى من سنينه· كانت دكّة الغسل خالية ويابسة وكانت مسبحة أبى الكهرب بيده اليمنى تطقطق· كان حمّودي قد خرج لشراء شيء ما وكان أبي لوحده· استقبلتني نظراته بعد أن سمع وقع خطواتي·
 
- االله يساعدك يابه·
 
- هلا· ها ابني خير انشالله؟ شْعَجَب هنا؟ 
 
لم تكن قدماي قد وطأتا أرض المحل منذ أكثر من سنة· حاولتُ أن أبتعد عن الموت وتصدّعت علاقتي بأبي· استشعر هو شيئاً ما في نبرة صوتي و من الوجوم الذي غطى محياي، فبان القلق في صوته:
 
- شكو؟ أمّك بيهه شي؟
 
- لا يابه· 
 
- شنو لعد؟
 
اقتربتُ منهُ و انحنيتُ لأعانقه وهو جالس في كرسيه· فسألني: 
 
- شنو لعد؟ أمّوري صارله شي؟
 
كانت الأخبار في اليومين الماضيين قد تحدّثت عن معارك دامية في الفاو، حيث كانت وحدة أمّوري قد نُقِلت قبل شهرين من القاطع الشمالي، وعن خسائر جسيمة تكبّدها الجيش· ترددتُ لثوان طويلة كأنّني أريد أن أؤجل الخبر الجلل· ثم قلت له وأنا أعانقه وأقبّله على خده الأيسر دون أن أتمكن من حبس دموعي: البقيّة بحياتك يابه، هسّه جابوه للبيت·
 
وضع ذراعيه حولي وردّد بصوت متهدّج: لا حول ولا قوّة إلا باالله· لاحول ولا قوّة إلا باالله· لا إله إلا االله· له وحده البقاء· ثم أجهش كطفل صغير·عانقته بقوة أكبر وشعرت بأننا تبادلنا أدوار الإبن والأب لدقائق· بللت دموعه الحارة خدي· أحسست بأنه يريد الوقوف فخفّفت ذراعيّ ووقف هو ومسح دموعه بظاهر يده اليمنى دون أن تفلت المسبحة منها· أطفأ الراديو وارتدى سترته وأقفلنا باب المحل وعدنا سوية إلى البيت دون أن نقول شيئا في الطريق· ولم نغسل أموري لأن الشهيد لا يغسّّل، بل يدفن بملابس المعركة·
 
لم أر أبي يبكي بعدها أمامي أبداً لكن الانكسار الذي لمحته يتغلغل في عينيه وفي صوته ذلك اليوم كان يطفو بين الحين والآخر على وجهه وبالذات كلما نظر إلى صورة أمّوري المعلقّة على الحائط كأنّه يحاوره بصمت·
 
ذات النظرة التي لمحتها على وجه أبي حين كان التراب يهال على قبر أمّوري والدفّان يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم جاف الأرض عن جنبيه واصعد إليك بروحه ولقّه منك رضواناً وسكّن قبره من رحمتك ما تغنيه به عن رحمة سواك· إيماناً بك وتصديقاً ببعثك، هذا ما وعدنا االله ورسوله وصدق االله ورسوله، اللهم زدنا إيماناً وتسليما· 
 
بعد انقضاء مجلس الفاتحة ظلّت اللافتة السوداء لأشهر على جدار بيت في بداية شارعنا: {لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل االله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}، الشهيد البطل الدكتور أمير كاظم حسن، استشهد في معركة تحرير الفاو بتاريخ 1987/4/17·
 
لم يكن أبي ثرثاراً أو ضحوكاً لكن رحيل أمّوري زاد من صمته وإطراقه وأصبح أكثر مزاجية وتقلّباً· وكانت أمّي هي التي تتلقى موجات غضبه بدمدمة أو شكوى تهمسها لنفسها عندما يصرخ هو كافي أو نصّي التلفزيون التلفزيون الذي كان سلوتها الوحيدة· لم أكن أمضّي الكثير من الوقت في البيت أساساً قبل موت أمّوري، لكنّ اصطداماتي بأبي ازدادت بعد ذلك وكنت أحاول أن أتفاداه لأتفاداها· قال لي أكثر من مرة وأنا أعود ليلاً بأنّني أتعامل مع البيت كأنّه فندق·
 
بعد ثلاث سنوات ونصف من موت أمّوري، عام 1990، حين وافق صدّام على كل شروط الإيرانيين وتخلّى عن مطالبه التي شنّ الحرب بسببها بعد احتلال الكويت كي يضمن الجبهة الشرقية ويسحب الجيش منها إلى الكويت، ضرب أبي كفّا بكفّ وصرخ: لعد خاطر شنو حاربنا ثْمَنّ سنين ولوّيش راح أمّوري؟ أمّا أمي فكانت تكتفي بوضع راحتيها على وجهها وتنتحب كلما تذكّرته· وكانت أختي تواسيها وتعانقها فتغرقان في حزن بعضهما البعض·

الصفحات