أنت هنا

قراءة كتاب مدينة الله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدينة الله

مدينة الله

  "مدينة الله" رواية الروائي والقاص الفلسطيني الدكتور حسن حمي، عن منشورات المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ومن غير القدس يمكن أن تكون مدينة الله؟!

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
في الطريق إلى المغارة
 
أعترف،أنني ما كنت أود الكتابة إليك مرة أخرى قبل أن تصلني رسالة منك، أو قبل أن تكلمني عبر الهاتف، ولكن ما حدث جعلني أنهض إلى ورقي كي أكتب إليك، فأنت مرآتي، ولابد من أن أرى نفسي فيها·
 
ها أنذا، أعود من سلوان، النبعة الوسيعة المخبأة بين أشجار الطيون والغار، وأجمات القصب، وقد باتت حياً من أحياء القدس، صحيح أن لها إيهاب قرية، وعفوية ريف تلفها، ولكن روح المدينة شاعت فيها فشملتها· كانت ثمة مساحة واسعة مكشوفة تفصلها عن القدس، لكن البيوت، والأبنية العالية، والشوارع العريضة والضيقة··· امتدت نحوها فأخذتها شداً باليدين حتى صارت حيّاً من أحياء المدينة·
 
أعود ماشياً بمحاذاة الساقية التي تقودني مثل دليل إلى وسط المدينة، وإلى جواري تماماً سور القدس الحجري الأبيض العريض يباريني وقد علته الطيور حذرة، وجاورته الأشجار، وقربي فلاحات يجالسن الظلال، وقد بدت أمامهن قففٌ وسلالٌ مملوءة بالتين، والزبيب، واللوز، والجوز، والخبز·· لكأنهن مشهدٌ أو صورة في مجلة ملوّنة· أودّ الاقتراب من إحداهن لأسألها عن زبيبها، وعن رائحة الخبز العابقة كالبخور، لكن رجلاً عجوزاً نحيلاً، أبيض البشرة، بشاربين أشقرين يوقف عربته إلى جواري، ويناديني: سيدي، سيدي·
 
فألتفت إليه بكليتي، أستدير نحوه تماماً، فأرى بوضوح شديد عربته الخشبية الصغيرة الملونة، وكرسي الجلد الطويل الذي يعلوها، وأرى حصانه الأشهب الذي وقف وقفة الحيرة والانتظار· يهبط الرجل من عربته، ويدنو مني· يسألني إن كنت راغباً بزيارة مغارة سيدنا· قلت: أية مغارة· قال: مغارة سيدنا العجيبة· قلت: أين هي؟ قال: على مبعدة من هنا، اصعد، سترى عجباً· ودونما إبطاء، ودونما التفات نحو الفلاحة بائعة الزبيب والخبز، صعدتُ العربة، وجلست في المقعد الجلدي المريح النظيف، تظللني واقية جلدية مزينة بصور القدس· سألت الرجل عن المغارة وأهميتها، فقال: بدايةً، لا بد لي من أن أقول لك شيئاً كتعريف، أنا من ايرلنده، واسمي جو مكملان، جئت إلى هنا من أجل أن أقضي أسبوعاً أو أسبوعين في القدس، وأعود إلى دبلن، فلدي هناك أعمالي ومشاغلي، ناهيك عن أن لي فيها عشيقة عزيزة عليَّ، أدم قلبي حتى قبلت بي، عشيقة تساوي في أهميتها دبلن نفسها، وأن لي فيها صديقاً نادراً كلما عصفت بي ريح الأذى كان سياجي، ووالدة·· كلما جفت روحي ذهبتُ إليها لأرتوي، صحيح أنها تزوجت بعد وفاة والدي بحادثة القطار المشؤومة، إلا أنها ظلت أمي التي تهفو روحي إليها على الدوام· يا إلهي ما أكثر أُنس الأُمهات، وما أكبر الطمأنينة التي يمنحنها، لكن ما إن وصلت إلى هنا، إلى القدس، حتى أحسست أن أعمالي ومشاغلي صارت هنا، وأن عشيقتي التي حاولت ودّها سنوات سنوات هي هنا، وأن صديقي النادر صار أصدقاء نادرين هنا، وأن أمي الحنون، اليد المباركة، الصوت الدافئ المطمئن هي هنا أيضاً· لم يكن في الأمر غواية، ولا غيبوبة، وإنما كان سحراً، فأنا لا أدري، حتى ساعتي هذه، من أبقاني هنا، قلبي أو عقلي، وكيف قضيت عمري هنا أجول في المكان فلا أشبع من رؤيته، وأخالط الناس فلا أرتوي من محبتهم··· أنظرُ إلى البيوت، والشرفات، والعتبات، والنوافذ·· فأراها أكثر سحراً ودهشةً في كل يوم؛ أشعر بأن تلويحاتها تخصني بالنداء والدنو، وأن وجوه الناس الرَّضية، رغم الأسى والعذاب والمكاره، تخصني برضاها، وأن ظلال الأشجار لي، وتحويمات الطيور هالات ضوء تحرسني، وأن السواقي، كيفما مشيت، تماشيني، وأن هفيف الأنسام يعبر قميصي للسلام والتحية ومباركة الجسد، وأن الروائح الزكية تنثال من هنا وهناك لأجلي، والناس يمرون بي للمؤانسة والمسرة؛ دائماً، وكلما فكرت بـ دبلن العزيزة تنهض جمالية القدس العزيزة، روحانيةُ المكان، قدسية الخطا التي مشاها سيدنا الجليل، روائحُ البخور، طيبةُ الناس التي يُراد الفتك بها· هنا، وفي كل صباح ينفتح أمامي كتاب الصلوات والمحبة، وكتاب الصبر الذي يعيش معانيه الناس، وقد صارت المكاره التي أصابتهم أذياتٍ وندوباً ومواجعَ أبدية؛ دائماً، وفي كل صباح، أسأل السماء··· ذراعاً أو سياجاً أو قميصاً أو سيفاً أو كلمةً تحمي هؤلاء المظلومين أهل الأرض كي لا تموت المحبة؛ كي لا يموت السلام· أصارحك بأن وجودي هنا راح يشعرني بقيمتي، بإنسانيتي··· كي أناصر أهل سيدنا الناصري·

الصفحات