أنت هنا

قراءة كتاب يمامة الرسام

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يمامة الرسام

يمامة الرسام

  "يمامة الرسام" مجموعة قصصية للكاتب العراقي علي عبد الأمير صالح، صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2010؛ نقرأ منها:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9
وبعد أسبوع صرنا نعمل معه ومع ولده في صنع الزوارق·· كان قد أسلم مهمة صنع الزوارق إلى ابنه وهو شاب ضخم البدن عريض المنكبين، ذو كفين خشنتين متقرنتي الجلد وكأنهما ظهرا سلحفاتين، يحركهما حين يمشي كالمجذافين· حين سمعنا نقول لوالده إننا نروم العمل معه ضحك ضحكةً عاليةً مجلجلةً، من دون مراعاة لمشاعرنا·· كانت أيدينا ناعمة، وقد استغرب الشاب أن نلجأ إلى مهنة شاقة كهذه··
 
كنا أنا وصديقي، نتذكر أيام السجن الرهيبة·· نتذكرها حين تسقط المسامير من أفواهنا التي كثرت فيها الفجوات·· وكان ذلك الشاب الضخم ذو اليدين المجذافيتين ينظر إلينا ضاحكاً من دون أن يتفوه بشيء على الإطلاق· نتذكر حفلات موسيقى الجاز·· نتذكر حفلات قلع الأسنان ومباريات الشطرنج·
 
وذات يوم صيفي قائظ، بعد أن شربتُ طاسةً كبيرةً من اللبن البارد في وجبة الغداء، رأيت في منامي حلماً غريباً·
 
كنت أملك مصهراً، وكان معي فريق من الرسامين والنحاتين·· كنا نصهر تمثال الملك·· ونحوله إلى طاسات مدورة مكتوب على ظهرها كش ملك نوزع تلك الطاسات اللامعة الصقيلة على المتسولين والمعوقين في شوارع العاصمة القريبة من الساحة التي كان ينتصب فيها التمثال البرونزي للملك·· رجال الشرطة الشرسون الأشداء يتعقبوننا، ويضربوننا بالعصي الغليظة·· يركلون تلك الطاسات بأحذيتهم الثقيلة·· يركلونها من أمام المتسولين والمعاقين الذين يعرضون عاهاتهم وتشوهاتهم أمام السابلة والسياح الذين يعتمرون قبعات الفيلور والقش، ويخفون عيونهم وراء نظارات شمسية داكنة الألوان·· وأخيراً لحق بي شرطي ذو وجه أحمر منمش وطعنني بحربته في خاصرتي·· فأفقتُ فوراً من نومي·
 
إني، الآن، أعمل في صنع الزوارق، وأنام القيلولة على حصير من الخوص أيام الصيف·· أصيد السمك ليلاً على ضوء الفانوس·· وأرسم على الحيطان أو الورق الأبيض صورة الملك ثم ألطخها بالقار·· القار الأسود الذي نطلي به الزوارق··
 
مازلت أذكر أصدقائي الرسامين والنحاتين·· هم ما يزالون يقبعون هناك في السجن الآيل للسقوط·· لا أدري كم أصبح عدد الدلاء التي يأخذونها إلى الخارج·· حتما هم الآن يتقيئون من كل شيء، يتقيئون من مرارة العيش، من الظلم، من الإهمال، من النسيان·· حتماً أصبح لديهم دلو رابع للقيء·· أو ربما خامس للقيح·· قيح الجراح الملتهبة، قيح الدمامل المزعجة·· قيح ممزوج بالدم، يلطخ الخرق البالية التي انتزعوها من قمصانهم وسراويلهم·
 
يخيل لي، الآن، أن أصدقائي ما زالوا يرسمون أحلامهم، مازالوا يكتبون أمانيهم، فوق جدران الزنزانات الرطبة، على الرغم من اليأس والألم والحزن·· لم يعودوا يملكون شيئاً يرسمون به، لم يعودوا يرسمون بالفحم بالزيت بالألوان المائية·· صاروا يرسمون بالدموع، بالعرق، بالدم، بالقيح، بالقشع· أما أنا فما زلتُ أرسم وجه الملك، وجه الملك الناعم الجميل، وألطخه بالقار·· بالقار الأسود·

الصفحات