أنت هنا

قراءة كتاب عطرية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عطرية

عطرية

رواية "عطرية" للكاتب السوري ابن الجولان معتز أبو صالح؛ الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت عام 2004، نقرأ منها:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9
-3-
 
كان الوجوم لابسًا وجهه ذلك الصباح، وخفقان قلبه يملأ صدره· عندما نهض من الفراش رأى كلّ الأشياء في القصر سوداء· خرج من القصر مسرعًا كي يلتقي بـنزهون ويبعد عنه تلك الأشباح الّتي تأكل رأسه يومًا بعد يوم·
 
كان ينتظر لقاءها من موكب إلى موكب، فقد سُمح له بأن يخرج مرّة في الشهر· وكان عندما يخرج يشعر بنفسه تتحرّر من سجن مسكون بالألم والعذاب، ومغلول بأوجاع أيام غابرة، يعلو صخبُها كلّما نشد السكينة·
 
طالما أقنعوه أن خارج القصر لا يوجد أيّ شيء، وأن العالم كلّه حاضر فيه، لكنّه عندما خرج من القصر لأوّل مرة اكتشف أن الحقيقة عكس ذلك تمامًا·
 
كان يحلم برؤية الوردَسِيّ، بالتمشّي بين وروده وتنشّق هواء ضفافه· ولكثرة ما حلم أعياه حلمه حتّى انتابته ذات يوم حمّى غاب خلالها عن الوعي أيّاما ثلاثة ظلّ خلالها يهذي بالوردَسِِيّ وبالورود· وقد أمضى أطبّاء القصر تلك الأيام حول فراشه كي يبعدوا عنه شبح الموت· فموته سيتسبّب، لا محالة، بكارثة لا يمكن لأحد أن يقدّر فداحتها؛ إنّه إبن الملك الوحيد، الإبن الذي لم يستطع الملك مرجان أن ينجب سواه، ولا مناص من أن يكون وريث العرش الذي يجري في عروقه دم سلالة مرجان· وديمومة الإله مرجان، وفق معتقداتهم، شرط لبقاء العطور في الينابيع·
 
حين استفاق من الحمّى عادت البهجة إلى القصر، فقرّر الملك أن يحقّق حلم وحيده برؤية الوردَسِيّ· أعلن الموافقة على خروجه من القصر لمرّة واحدة· حدث ذلك في أحد مواكب السوسنة حيث خرج تحت حراسة مشدّدة، يرافقه عشرة من خيرة جنود القصر· لكنّه بعد أن ابتعدوا عن القصر، نزل من العربة وطلب إلى الجنود أن يتركوه ويبقوا على بعد· كان يتحاشى أن يتعرّف الناس إلى نسبه، حتّى أنه، وإمعانا في الحرص، استبدل ملابسه الملوكيّة بملابس عاديّة كالّتي يلبسها أهالي عطريّة، تلك المصنوعة من جلود الكلاب، يجلبها التجّار من بلاد الصيّادين في الشمال، حيث تكثر الكلاب·
 
عندما لامست قدماه الأرض بكى من شدّة تأثّره· كان بكاؤه يزداد كلّما تقدّم خطوة، صامتًا ومرتعشًا كان كأيّام مرضه وعزلته· لم يعرف سبب امتلائه بذلك الدر من الجَيَشان· ولم يفهم كيف امتزج الفرح بالحزن بالحب والألم دفعة واحدة· بعد ساعات من السير المتواصل استلقى على الضفّة قرب أحد الينابيع وراح يتأمّل السائل الأحمر الذي يتدفّق منه، السائل الذي سيتحوّل، مجدّداً، إلى عطر عند بزوغ الفجر·
 
علينا أن نعود إلى القصر، همس في أُذنه أحد الجنود الّذين رافقوه· حتى تلك اللحظة لم يلمح أيّ مخلوق من السوسنة، فجميع الناس يشاركون في الموكب· سننتظر قليلاً، قال للجنديّ· ارتبك الجنود، فبعد قليل سيؤمّ الناس الينابيع كي يمضوا ليلتهم قربها· وسيبقون كذلك حتى حلول اللحظة الّتي ستعود العطور إلى الحياة من جديد· هكذا كانت تقتضي قوانين الطقس الملوكي آخر كلّ شهر· أن يتوجّه الجميع، رجالاً ونساء وأطفالاً، بعد الموكب إلى الضفاف وألاّ يعودوا إلى بيوتهم قبل أن يفارق الإحتقان لون المياه في الينابيع· أما النساء اللواتي يقفن في صفّين متقابلين على جانبي الموكب فيجب عليهنّ العودة إلى البيوت والمكوث فيها حتى الصباح·
 
عندما رأى أطياف الأشخاص من بعيد، طلب من الجنود أن يبتعدوا عنه أكثر· شعر أنه سيرى مخلوقات غريبة، استقام على ركبتيه وأرسل عينيه نحوهم· دوّت دقّات قلبه في صدره، وارتعشت أنامله· حين لاحظ اقترابهم منه راح ينقّل عينيه بينهم· لم تخدعه البهجة التي ارتسمت على وجوههم، فهو لم يرَ إلا قافلة مشتّتة من أشخاص قد قطعوا مسافات طويلة باحثين عن مكان لا أمل لهم في أن يجدوه· انخرط بينهم، وكانت في عينيه أسئلة كثيرة: من أنتم؟ ماذا تفعلون؟ إلى أين تمضون؟ هل ترون الغبار الذي يغطي وجوهكم؟ جال بينهم مع تلك الأسئلة وهام في عالم بعيد·· بعيد عن كلّ ما يجري داخل القصور· لم يغادره حتى بزوغ الفجر عندما انطلقت أولى نسائم العطر من الينابيع· فتح عينيه إذّاك، فتراءى له وجه نزهون، نظر حوله، وحين لم يعثر عليها ظنّ أنه كان يحلم· عاد إلى القصر ورأسه ممتلئة بوجهها ورائحة أنفاسها· انجدلت حوله أطياف حلم رافقه أثناء نومه· لقد رأى الإله مرجان يتمشّى بين الورود· يقطف منها ويرميها على وجه النهر، ثم يتحوّل فجأة إلى وردة· تأتي بعده فتاة إلى نفس المكان، تقطف من الورود وترمي بها على وجه النهر· تظلّ هكذا إلى أن تبلغ وردة مرجان وتقطفها· بعد أن تفعل تصير الوردة، فجأة، بحجم إنسان، فتبدأ الفتاة بنزع التويجيّات عن تلك الوردة إلى أن ينكشف أمامها شاب، يحتضنها، ثم يمضيان معًا متعانقين·
 
بعد ما كان له مع تلك المرّة الّتي خرج فيها وشاهد الحياة قريبة من كتفه لم يكن بإمكانه اعتبارها الأخيرة· لم يفارقه، للحظة واحدة، وجه نزهون والناس الّذين احتضنته صحبتهم تلك اللّيلة· ولقد انتابته، أمام ذلك التصوّر السيّء، حالة من الاكتئاب الشديد عجز أطباء القصر عن معالجتها· قال لهم بأنّ خروجه من القصر متى يشاء سيكون دواءه الوحيد·
 
أخيرًا رضخ الملك لرغبته وسمح له بالخروج مرّة في الشهر، وتحديدًا اليوم الذي ينطلق فيه الموكب· وهكذا أصبح يعيش حرًّا طوال ذلك اليوم كي يشارك الناس أفراحهم وانطلاقهم· فأيّام المواكب أصلاً جاءت كي تلبّي هذا الغرض· عندما ينطلق الموكب على امتداد إحدى جُزُر عطريّة يتحرّر الناس في باقي الجزر· يتزيّنوا للقاء ضفاف النهر، هذا أكثر ما أحبّوه· تلك الحرّية القاصفة الّتي تدعهم يُمضون يومهم متحرّرين من الهواجس على الضفاف· فأيّام المواكب هي الأيّام الوحيدة النّادرة التي يتمكّنون خلالها الاقتراب من فروع الوردَسِيّ لهذه الدرجة·
 
وكان هو راضيًا مكتفيًا بفكرة يوم في الشهر من السعادة خارج القصر· يخرج كي ينسى عالمه الصغير بين جدران القصر، ويعيش طليقًا كسائر أهل عطريّة في هذا اليوم· لكنّه في ذلك الصباح سيطرت عليه كآبة شديدة، حتى وجه نزهون الّذي يعبده لم ينجح بمحوها·
 
اقتربت منه وقالت:
 
- تبدو حزينًا·

الصفحات