أنت هنا

قراءة كتاب جوهر الإنسان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جوهر الإنسان

جوهر الإنسان

يتناوَل هذا الكتاب أفكاراً كانت قد قُدِّمَت في بعض كتبي الأولى، ومحاولات لتعميقها وتطويرها. ففي "الهروب من الحريّة" ناقَشتُ مُشكلة الحرية بالإضافة إلى السادية والمازوخية والتدميرية.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

شكل العنف الآخر المرتبط بالعنف الارتكاسي ـ إلا أنّه يمضي خطوةً أبعد في اتجاه الحالة المرضيّة ـ هو "العنف الانتقامي". في العنف الارتكاسي الهدف هو تجنّب الأذى المُهَدِّد، ولهذا السبب نقول أنّ هذا العنف يخدم وظيفة البقاء الحيوية. أمّا في العنف الانتقامي فالأذية قد تمّت سلفاً، وبالتالي لا يتمتّع العنف بوظيفة الدفاع. بل إنّه يمتلك وظيفة الحلّ السحري اللاعقلانية لما قد تمّ فعلاً في الواقع. ونجد العنف الانتقامي لدى الأفراد كما نجده بين الجماعات المتحضّرة والبدائيّة. وعند تحليل الطبيعة اللاعقلانية لشكل العنف هذا، يمكننا المضيّ خطوةً أُخرى أعمق.
يتناسب دافع الانتقام عكساً مع قوّة وإنتاجيّة مجموعةٍ ما أو فَردٍ ما. إذ ليس للعاجز والكسيح سوى مصدرٍ واحد لاسترداد تقديره لذاته الذي بدّده الأذى الذي لحق به: الانتقام وفقاً لقانون "العين بالعين والسّن بالسن". في المقابل، ليس الشخص الذي يحيا حياةً مِنتجة بحاجةٍ لهكذا مصدر ـ أو إنّ حاجته له قليلة جدّاً ـ. وحتّى في حال تأذّيه، وإهانته وتضرّره، فإنّ سيرورة حياته المنتجة تجعله ينسى أذى الماضي. وهنا تُثبت القدرة على الإنتاج أنّها أقوى من الرغبة بالانتقام. ويمكن إثبات حقيقة هذا التحليل بسهولة بواسطة البيانات التجريبية على المستوى الفردي والاجتماعي. حيث تبيّن المادّة التحليلية النفسيّة أنّ الشخص الناضج المنتج قلّما تُحَرّكهُ رغبة الانتقام مقارنةً بمن يعاني صعوبات في عيش حياته بشكل مُستَقِلّ وبكل ما للحياة من معنى، ومن هو ميّالٌ إلى حصرِ وجوده كله بالرغبة بالانتقام. ويغدو الانتقام في حالات المرَض النفسي الشديد، الهدف المُسَيطر على حياة المريض، إذ أنّه بغياب الانتقام يغدو ليس تقدير الذات فحسب بل ومعنى الذات والهويّة كلّه مُهدَّداً بالانهيار. كذلك نجد في الجماعات الأكثر تراجعاً (من النواحي الاقتصادية والثقافيّة والانفعاليّة) أنّ رغبة الانتقام (على سبيل المثال: ثأراً لهزيمةٍ قوميّةٍ ماضيّة) هي الأقوى. وهكذا نجد أيضاً أنّ الطبقات الوسطى والدُنيا، وهي الطبقات الأكثر حرماناً في الدوَل الصناعية، هي مركز أحاسيس الانتقام في بلدانٍ عديدة، تماماً كما هي مركز أحاسيس العنصريّة والقوميّة.و بواسطة "استبيانٍ إسقاطيّ"5سيكون من اليسير إثبات العلاقة بين شدّة الأحاسيس الانتقاميّة والفقر الثقافي والاقتصاديّ. وقد يكون فهم الانتقام بين المجتمعات البدائية أكثر تعقيداً. إذ تتمتّع العديد من المجتمعات البدائيّة بأنماط وأحاسيس انتقاميّة شديدة بل وحتى، وتشعر المجموعة كلّها بالتزام نحو الانتقام من أية أذية تصيب أحد أفرادها. ويبدو أن هناك عاملان يلعبان دوراً حاسماً هنا. الأول يشبه كثيراً ما ذكرناه سابقاً: جَوّ النقص النفسيّ الذي يتخلّل المجموعة البدائيّة والذي يجعل الانتقام وسيلةً ضروريّةً لتعويض خسارةٍ ما. أما الثاني فهو النرجسيّة، وهي ظاهرة قمنا بمناقشتها بشكلٍ مُفَصّل في الفصل الرابع. وهنا يكفينا القول أنّه في حالة النرجسيّة الشديدة التي تتمتّع بها الجماعة البدائيّة، أيّة إهانة لصورتها عن ذاتها تكون كارثيّةً إلى الحَد الذي يغدو فيه ظهور عداوةٍ شديدة أمراً طبيعياً تماماً.
و يرتبط العنف الانتقامي بشكلٍ وثيق بمصدر تدميريةٍ ناتج عن "تحطُّم الإيمان" الذي غالباً ما يحدث في حياة طفل ٍ ما.
ما الذي نعنيهِ بـ "تحطّم الإيمان" هنا؟
يبدأ أي طفل حياته بالإيمان بالخير والحُب والعدل. يؤمن الطفل بثديي أمِّه، وباستعدادها لتغطيته عندما يُحِس بالبرد، وإراحتهِ عندما يكون مريضاً. قد يكون هذا الإيمان إيماناً بالأب، بالأُم، بالجَد، أو بأي شخص قريب منه. ويمكن التعبير عنه كإيمان ٍ بالله. يتحطّم هذا الإيمان عند العديدين في عمرٍ مُبكّر. حيث يسمع الطفل أباه يكذب في مسألة هامّة ما، ويرى خوفه الشديد من أمٍّ مستعدّة لخيانتهِ لصالح راحتها. وهو يشهد علاقة أبويه الجنسيّة، وقد ينظر إلى أبيه على أنّه وحش همجيّ. إنه غير سعيد،أو خائف جداً،ولا أحَدٌ من أبويه ـ اللذين يُفتَرَض أنّهما مهتمّان جدّاً به ـ يلاحظه، أو حتّى يعيره أي انتباه عندما يخبره شيئاً ما. هناك عدد هائل من المرّات التي يتحطّم فيها الإيمان الأصلي بحب وصدق وعدل الوالدين. وأحياناً، يتحوَّل فقدان الإيمان ـ لدى الأطفال المولودين دينياً ـ بشكلٍ مباشَر إلى الله. يختبر الطفل موت عصفور صغير يحبّه، أو صديق ما أو أُخت، وفجأةً يتحطّم إيمانه بالله. إلا أنّه لا فرق بين شكلي تحطّم الإيمان: بالله أو بفردٍ ما. إذ أنّ ما يتحطّم حقّاً دوماً هو: إيمانه بالحياة، وبإمكانيّة الثقة بها. ومن الصحيح طبعاً أن كل طفل يمر بعدد من الصدمات، إلا أن ما يهم هو حدة وشدة خيبة معينة. وغالباً ما تحدث تجربة تحطم الإيمان الأولى والحاسمة هذه في عمر مبكر: في الرابعة أو الخامسة أو السادسة أو حتى في فترة أبكر من ذلك، وهي فترة من الحياة لا نتذكر منها إلا القليل. بينما يحدث التحطم النهائي للإيمان في عمر أكبر بكثير. عند خيانته من قبل صديق أو حبيبة أو معلم أو قائد ديني أو سياسي يثق به. هذا وقلّما يكون هنالك حادثة واحدة مفردة. إذ غالباً ما يكون هنالك عدد من الخبرات الصغيرة التي بتراكمها تحطم إيمان الفرد. وتختلف ردود الأفعال على هذه الخبرات. إذ قد يتفاعل شخص ما بتركه الاعتماد على الشخص الذي قد خيب أمله، وبالتحول إلى شخص أكثر استقلالية وقدرة على إيجاد أصدقاء ومعلمين أو أحبة جدد يثق ويؤمن بهم.
وهذا هو رد الفعل الذي نرغب به بشدّة عند مواجهة خيباتٍ مُبكرة. في حين يبقى الفرد في أمثلةٍ أُخرى عديدة شكّاكاً، حالماً بالمُعجزات التي تعيد لهُ إيمانه، يختبر الناس، وعندما يخيبونه بدورهم يختبر غيرهم، أو يرمي نفسه في أحضان مرجعيّةٍ قويّة (الكنيسة، أو حزب سياسي، أو قائد ما) ليستعيد إيمانه. وغالباً ما يتجاوز يأسه الناتج عن فقد إيمانه بالحياة من خلال سعيه المحموم خلف أهدافٍ دنيويّة: المال، السلطة أو المظهر الاجتماعيّ.

الصفحات