أنت هنا

قراءة كتاب سحر الواقع

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سحر الواقع

سحر الواقع

كتاب سحر الواقع، لكاتبه ريتشارد دوكينز، والذي ترجمه للعربية المترجم عدنان علي الشهاوي، الواقع هو كل ما له وجود، ويتحقق على الدوام، أليس كذلك؟ لكن الأمر ليس كذلك، هناك مشاكل عديدة.

تقييمك:
2
Average: 2 (2 votes)
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 2

النماذج: اختبار ما نتخيله

ثمة وسيلة أقل شيوعًا تتيح لأي عالِم استنتاجَ ما هو واقع إذا لم تستطع حواسنا الخمس اكتشافه مباشرة. ويتم هذا من خلال استخدام «نموذج» لما ينبغي أن يحدث، وهو ما يتيح بالتالي اختباره. نحن نتخيل ـ يجب أن تقول نحن نظن ـ ما يتعين أن يكون هناك. وذلك هو ما يُسمى بـ النموذج. وحينئذ نستنتج ـ غالبا بإجراء حسابات رياضية ـ ما ينبغي أن نراه، أو نسمعه... إلخ، (بمساعدة أدوات قياس) إذا ما كان النموذج حقيقيًا. حينئذ نفحص إن كان ذلك هو ما رأيناه فعليا. وقد يكون النموذج بالفعل صورة طبق الأصل مصنوعة من الخشب أو البلاستيك، أو ربما صياغات رياضية على الورق، أو مجرد محاكاة في جهاز كمبيوتر. وننظر بدقة إلى النموذج ونتنبأ بما ينبغي أن نرى أو نسمع...، إذا كان النموذج صحيحا. ثم ننظر لنرى إذا ما كان التنبؤ صائبًا أم خاطئًا. فإذا كان صوابًا، زادت ثقتنا في أن النموذج يمثِّل الواقع حقًّا؛ حينئذ نستمر لتصميم المزيد من التجارب، لعلّ دقة النموذج تزداد، من أجل تحقيق نتائج موثوق بها والبناء عليها. وإذا جاءت التنبؤات خاطئة، نرفض النموذج، أو نُعدّله ونكرر المحاولة.
كمثال على هذه النقطة، في هذه الأيام، نعلم أن الجينات ـ وحدات الوراثة ـ تُسمى الـ دي إن إيه ـ DNA. ونحن لدينا قدر هائل من المعرفة عن هذه الوحدات وطريقة عملها. لكنك لا تستطيع أن ترى تفاصيل مظاهرها، حتى من خلال ميكروسكوب قوي. فكل ما نعرفه تقريبا عنها يأتينا على نحو غير مباشر من نماذج مخترعة نُخضِعها للاختبار.
في واقع الأمر، منذ فترة طويلة قبل أن يسمع أي شخص شيئا عن الـ DNA، كان العلماء يعرفون الكثير عن الجينات باختبار تنبؤات من النماذج. وفي القرن التاسع عشر، أجرى راهب نمساوي يدعى جريجور مندل Gregor Mendel عدة تجارب في حديقة الدير حيث يقيم، لاستنبات حبوب البازلاء بكميات كبيرة. وأحصى عدد النباتات ذات الزهور متعددة الألوان، أو النباتات التي تحتوي على حبات بازلاء مجعدة وتلك المحتوية على حبّات ناعمة الملمس، حسب أجيالها. ولم يكن مندل قد رأى جينا أو لمسه من قبل. كان كلُّ ما رآه هو حبات البازلاء والأزهار، وأمكنه استخدام عينيه ليعُدَّ الأنواع المختلفة منها. واخترع نموذجا، يشتمل على ما نسميه الآن جينات رغم أن مندل لم يُطلق عليها هذا الاسم ـ واستنتج أنه، في حال صحة هذا النموذج، في تجربة استنبات معينة، يتعين وجود حبيبات ناعمة يبلغ عددها ثلاثة أمثال الحبوب المجعدة. وكان ذلك هو ما وجده حين أحصى الحبيبات. وإذا ما نحّينا التفاصيل جانبًا، فالأمر الأساسي أن «جينات» مندل كانت اختراعًا من خياله، لم يكن بمقدوره رؤيتها بعينيه، ولا حتى باستخدام ميكروسكوب. لكنه استطاع رؤية حبيبات بازلاء ناعمة وأخرى مجعدة، وفي أثناء إحصائها وجد دلائل غير مباشِرة على أن نموذجه عن الوراثة كان تمثيلا جيدا لشيء ما في دنيا الواقع. واستخدم العلماء في ما بعد تعديلا لطريقة مندل، يصلح مع الكائنات الحية الأخرى مثل ذبابة الفاكهة بدلا من حبوب البازلاء، لبيان أن الجينات تتوزع في ترتيب محدد، على طول خيوط تسمى الكروموسومات _ لدينا نحن بني الإنسان 46 كروموسوما، ولدى ذبابة الفاكهة ثمانية ـ حتى إنه بات من المتاح، عن طريق فحص النماذج، استنتاج الترتيب الدقيق الذي تتوزع به الجينات على طول الكروموسومات. ولقد جرى كل هذا قبل أن نعرف أن الجينات مصنوعة من الـ DNA.
في أيامنا هذه، نعرف هذا، ونعلم تماما كيف تعمل الـ DNA، بفضل جيمس واطسون James Watson وفرنسيس كريك Francis Crick، إضافة إلى عدد كبير من العلماء الآخرين الذين جاءوا بعدهما. ومرة أخرى لم يستطع واطسون وكريك رؤية الـ DNA بالعين المجردة، وصنعا اكتشافاتهما عبر تخيُّل النماذج واختبارها. وفي حالتيهما، قاما حرفيًّا ببناء نماذج من المعدن والكرتون لما يمكن أن يشبه الـ DNA، وأجريا حسابات لما ينبغي أن تكون عليه قياسات معينة إذا كانت تلك النماذج صحيحة. وجاءت تنبؤاتهما لأحد النماذج، المسمى الحلزون المزدوج، مطابقة تمامًا لقياسات قامت بها روزالين فرانكلين Rosalind Franklin وموريس ويلكنز Maurice Wilkins، باستخدام أدوات خاصة تشتمل على الأشعة السينية الموجهة إلى بلّورات الدي إن آي المصفّاة.
وتأكد واطسون وكريك في الحال من أن نموذجهما عن تركيب الـ DNA سوف يسفر تمامًا عن نوع النتائج التي شاهدها جريجور مندل في حديقة الدير.
لقد توصلنا إلى معرفة ما هو واقع، حينئذ، بواحدة من ثلاث طرق. ونستطيع اختبار إحداها مباشرة، باستخدام حواسنا الخمس؛ أو على نحو غير مباشر باستخدام حواسنا المدعومة بأجهزة معينة مثل الميكروسكوبات والتليسكوبات، أو حتى بشكل غير مباشر أكثر من هذا، بخلق نماذج لما ينبغي أن يكون واقعًا، ومن ثم اختبار تلك النماذج لنرى ما إذا كانت تنجح في التنبؤ بالأشياء التي نستطيع أن نراها (أو نسمعها أو... ). بمساعدة الأجهزة أو من دونها. في النهاية، دائما ما يعود الأمر إلى حواسنا، بطريقة أو بأخرى.
هل يعني هذا أن الواقع يحتوي فقط على أشياء قابلة للاختبار، على نحو مباشر أو غير مباشر، بحواسنا أو من خلال طرائق العلم؟ وماذا عن أشياء أخرى من نوع الغيرة والبهجة، السعادة والحب؟ أليست كلُّها أيضا من الواقع؟
أجل، إنها واقع. لكنها تعتمد في وجودها على العقول: العقول البشرية، بالتأكيد، ومن المحتمل عقول الأنواع الأخرى من الحيوانات المتطورة، مثل الشمبانزي، الكلاب والحيتان أيضا. ولا تشعر الصخور بالبهجة أو الغيرة، والجبال لا تحب. فهذه المشاعر واقع مكثف لهؤلاء الذين تتبدى لديهم، لكنها لا توجد قبل وجود العقول. ومن المحتمل أن مشاعر كهذه، وربما مشاعر أخرى، نستطيع الشروع في الحلم بها، على كواكب أخرى، فقط لو كانت تلك الكواكب تحتوي على عقول أو شيء ما مكافئ للعقول؛ (من يعلم؟)! فلربما كانت هناك آلات غير تقليدية للتفكير أو المشاعر، قد تسللت إلى موضع آخر في الكون.

الصفحات