كتاب سحر الواقع، لكاتبه ريتشارد دوكينز، والذي ترجمه للعربية المترجم عدنان علي الشهاوي، الواقع هو كل ما له وجود، ويتحقق على الدوام، أليس كذلك؟ لكن الأمر ليس كذلك، هناك مشاكل عديدة.
أنت هنا
قراءة كتاب سحر الواقع
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بطبيعة الحال، في هذا السيناريو الذي عرضته للتوّ، نتخيل أنفسنا نمارس دور مربّى السنادل، نلتقط الذكور والإناث التي نريد أن نزوِّجها معا من أجل تحقيق نتيجة نهائية لما اخترناه. ويطبق المزارعون هذه التقنية منذ آلاف السنين، لإنتاج ماشية ومحاصيل تعطي غلة أغزر أو أكثر قدرة على مقاومة الأمراض، وهلم جرّا. وكان داروين أول شخص يفهم أن هذا هو ما يحدث حتى لو لم يكن هناك مرَبٍّ يقوم بعملية الاختيار. ورأى داروين أن الأمر كله يحدث بشكل طبيعي، في واقع الأمر، لسبب بسيط هو أن بعض الأفراد يقضون حياة أطول بما يكفي للتوالد بينما لا يتمكن آخرون من ذلك؛ وأن من يستمرون أحياء يحدث لهم ذلك لأنهم أكثر استعدادًا من آخرين. لذلك يرث أبناء الأحياء الجينات التي ساعدت آباءهم على الحياة. سواء كانوا من سمندل الماء أم الضفادع، من حيوانات القنفذ أو نبات الهندباء، دائما سيكون هناك بعض الأفراد يعيشون على نحو أفضل من الآخرين. وإذا حدث وأصبحت الأرجل الطويلة مفيدة (للضفادع أو الجراد لتقفز بعيدا عن الأخطار، مثلا، أو للفهود الصيّادة للغزلان، أو للغزلان لتساعدها على الهرب من الفهود الصيّادة)، فإن الأفراد ذوي الأرجل الطويلة ستقل لديهم احتمالات تعرّضهم للموت. سيكون الاحتمال الأعلى بالنسبة لهم أن يعيشوا زمنا كافيًا للتكاثر. أيضا، كلما زاد عدد الأفراد المتاح لهم التزاوج معًا أصبحت أرجلهم أكثر طولا. وبناء عليه، في كل جيل ستزداد فرص وجود جينات الأرجل الأطول لكونها تنتقل إلى الجيل التالي. وبمرور الوقت سنجد أفرادًا أكثر فأكثر ضمن هذه المجموعة لديها جينات لأرجل أكثر طولا. ومن ثم سيكون التأثير مماثلا تمامًا كما لو أن مصممًا ذكيًّا مثل إنسان يتولى التربية، يقوم باختيار الأفراد طويلي الأرجل للتكاثر ـ فيما عدا أن مثل هذا المرَبّي لا يكون مطلوبا: فكل شيء يحدث طبيعيًّا، يحدث من داخله مثل التتابع الآلي الذي يحيا الأفراد من خلاله بما يكفي للتناسل، أو لا يحدث. ولهذا السبب، تُسمى العملية: الاختيار الطبيعي.
بافتراض انقضاء أجيال كافية، يمكن للأسلاف التي تشبه سمندل الماء أن تتغير إلى سلالات تشبه الضفادع. وبافتراض وجود أجيال أكثر، يمكن للأسلاف التي تشبه السمك أن تتغير إلى سلالات تشبه القردة. وبافتراض مرور أجيال أخرى بما يكفي فإن الأسلاف التي تشبه البكتيريا يمكن أن تتغير إلى سلالات تشبه الإنسان. وذلك بالضبط هو ما حدث. هذا ما حدث في تاريخ كل حيوان ونبات استمر على قيد الحياة. وعدد الأجيال اللازمة أكبر مما أستطيع أنا أو أنت أن نتخيل احتماله، لكن العالم يعود تاريخه إلى ملايين السنين، ومن خلال بعض الحفريات نزعم أن الحياة بدأت قبل أكثر من ثلاثة بلايين ونصف البليون سنة، لذلك كان هناك زمن هائل يتيح حدوث التطور.
هذه فكرة داروين العظيمة، وتسمى التطور بواسطة الانتقاء الطبيعي. وهي واحدة من الأفكار الأكثر أهمية التي طرأت على المخ البشري. فهي تشرح كل ما نعرفه عن الحياة على كوكب الأرض. ولأنها بالغة الأهمية، سأعود إليها في فصول تالية. أما الآن، فيكفي أن نفهم أن التطور بطيء وتدريجي على نحو بالغ. وفي واقع الأمر، إن تدرّج عملية التطور هو الذي أتاح له عمل الأشياء المعقدة مثل الضفادع والأمراء. والتغير عن طريق أعمال السحر من ضفدع إلى أمير لن يكون تدريجيًّا بل مفاجئًا، وهذا السحر هو ما يتحكم في أشياء كهذه خارج عالم الواقع. التطور تفسير حقيقي، يحدث حقًّا ويمتلك دلائل صحيحة لتفسير حقيقته؛ فكل شيء يقترح أن أشكال الحياة المعقدة ظهرت في اتجاه واحد (بدلا من التطور التدريجي خطوة خطوة)، هو مجرد قصة كسول ـ ليست أفضل من السحر الخيالي لعصا ساحرة من الجان.
وبالنسبة لثمار قرع العسل التي تتحول إلى عربات تجرها جياد، فإن التعاويذ السحرية هي بالتأكيد أعمال خارقة شأنها شأن الضفادع والأمراء. فالعربات لا تتطور ـ أو على الأقل، ليس تطورا طبيعيًّا، بالطريقة ذاتها التي تحدث للضفادع والأمراء. لكن العربات ـ ومعها الطائرات والفئوس، أجهزة الكمبيوتر ورؤوس السهام الصلبة ـ كلُّها مصنوعة بيد الإنسان الذي طوّرها. وقد تطورت العقول والأيدي البشرية عن طريق الاختيار الطبيعي على نحو مؤكد كما حدث لذيول السمندل وأرجل الضفادع. وأصبحت عقول البشر، بمجرد تطورها، قادرة على تصميم وخلق العربات والسيارات، المقصات والسيمفونيات، ماكينات الغسيل والساعات. ومرة أخرى، لا وجود لسحر. ومرة أخرى، لا وجود لخدعة. ومرة أخرى، يخضع كل شيء ببساطة للتفسير.
فيما يلي من هذا الكتاب، أريد أن أبيّن لك أن العالم الحقيقي، طبقا للفهم العلمي، يمتلك سحرا نابعا من داخله ـ هذا الذي أسميه السحر الشاعري: الجمال الملهم (بكسر الهاء) الذي هو كله سحر متزايد نظرًا لأنه سحر حقيقي ونستطيع أن نفهم كيفية عمله. فبجانب الجمال والسحر الحقيقيين للعالم الواقعي، إن التعاويذ الخارقة والخدع المؤداة في العروض تبدو رخيصة ومبتذلة بالمقارنة.
إن سحر الواقع ليس من الخوارق أو الخدع ـ ببساطة تمامًا ـ إنه مدهش، مدهش وحقيقي. مدهش لأنه حقيقي.