أنت هنا

قراءة كتاب الخليج بعد النفط

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الخليج بعد النفط

الخليج بعد النفط

كتاب "الخليج بعد النفط " ، تأليف عبد العزيز خليل المطوع ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3

1.1 الثقافة السلوكية والنفسية

من هذه الثقافة المميزة تقتبس تلك الشعوب الإضاءات التي تمنحها رؤيتها الخاصة في مدرسة الحياة، وتوظّفها كمحركٍ أو كدافعٍ لها للسلوك والتنظيم والتخطيط والعمل والإنتاج، مع كونها في الوقت نفسه هدفًا نهائيّاً معلَنًا لطبيعة ونوعية المخرجات النهائية التي ينتجها الأفراد والمؤسسات؛ وبذلك تستنهض هذه الثقافة طاقة الإنسان الإبداعية، وتستنفر إمكاناته وقدراته بالتركيز على الجانب المعبّر عنها، كما أنها تعطي المجتمع الشحنة اللازمة من الثقة والاعتداد بالنفس لكي يستشرف بها مستقبله الغامض العصيب؛ وفوق ذلك كله، فإن هذه الثقافة تعمل كمؤشرٍ لقياس الأداء والحركة والالتزام والإنجاز، بحيث يظل المجتمع حريصًا باستمرارٍ على إبقائه في أعلى المستويات؛ ولأن الثقافة السلوكية والنفسية المميزة ليست مَعلَمًا معماريّاً أو أثرًا تاريخيّاً موروثًا، وليست حملةً إعلاميةً منمقةً بمساحيق التجميل والألعاب النارية، كما أنها ليست أوهامًا أو تهيؤاتٍ أو أحلامًا في اليقظة، بل هي مظهرٌ حضاريٌّ وثقافةٌ عميقةٌ ومعرفةٌ متراكمةٌ وعقليةٌ إبداعيةٌ والتزامٌ أخلاقيٌّ وأمانةٌ مع الذات وأسلوبٌ حياتيٌّ وهوايةٌ شخصيةٌ، ومن ثم، فإن صياغة أو صقل ثقافةٍ سلوكيةٍ واجتماعيةٍ ونفسيةٍ مميزةٍ لأي مجتمعٍ تصبح مهمةً شاقةً ومعقدةً، وإنجازًا يتشارك أكثر من جيلٍ واحدٍ في وضع قواعــــده، ولذلك فإنه لا يتمكن من صياغة هذه الثقافة إلا الأمم والمجتمعات التي تستجمع من تراثها التاريخي ومن تطورها العلمي والمعرفي ومن استقرارها السياسي ما يعطيها الشحنة الدافعة لبناء هذه الممارسة المرموقة، وهذه السِّمة السلوكية الخاصة·

ومع أن المجتمع الأمريكي، كنموذجٍ للتعددية الاجتماعية، يتألف من خليطٍ متنوعٍ من الأعراق والأصول والإثنيات والجنسيات والمشارب الثقافية، ومع توارد هذه المتناقضات والمتضادات من كياناتٍ سياسيةٍ مختلفةٍ في مدىً زمنيٍّ قصيرٍ نسبيّاً، إلا أن المجتمع الأمريكي نجح باقتدارٍ في فرض إيقاعه الثقافي والاجتماعي والنفسي على مزيجه البشري، ليشكّل- وإلى حدٍّ بعيدٍ- نسيجًا متجانسًا له الثقافة السلوكية واللُّحمة الاجتماعية والنفسية المتميزة نفسها، ومجتمعًا متجانسًا له الهوية الحضارية نفسها، وأمةً متجانسةً لها الرؤى والتطلعات المصيرية نفسها، ونجح بواسطة هذا النسيج المتماسك في احتلال مساحةٍ مرموقةٍ على الخريطة الهيكلية للحضارة البشرية؛ وعلى هذا النسق الاجتماعي، ولأنه يوجد تشابهٌ كبيرٌ في العديد من معطيات المجتمع الأمريكي، إلا أن المسافة بين مجتمعٍ كالمجتمع الخليجي وبين تكوين ثقافةٍ سلوكيةٍ ولُحمةٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ مميزةٍ له ظلت إلى الآن بعيدة المنال، رغم أكوام الحبال والأسلاك والخيوط التي استهلكها في محاولة صناعة نسيجٍ خاصٍّ به، بل إن المجتمع الخليجي بات أقرب إلى فشل أفراده أو سكانه الأصليين في المحافظة على خصوصيتهم الثقافية والاجتماعية والنفسية، حتى باتوا اليوم على مرمى حجرٍ من فقْد معالم هويتهم وتراثهم وذاكرتهم التاريخية، وهم يصارعون موجات الجنسيات والثقافات والنفسيات والعقليات التي جيء بها، ليس من كل بقعةٍ على سطح الكوكب، بل من الأحياء الخلفية ومدن الصفيح في تلك البقاع في أغلب الأحيان، وممن لا تربط ثقافاتهم أو هوياتهم أو تواريخهم أي وشائج للقربى بثقافة المجتمع الخليجي أو بهويته أو بتاريخه؛ ومع أن التواصل مع ثقافات العالم كان وما يزال مطلبًا حضاريّاً، إلا أن تواصل المجتمع الخليجي مع تلك الثقافات كان عبثي الطابع، لأن الثقافة الخليجية مثّلت الحلقة الأضعف في سلسلة ذلك التواصل، ولأن التواصل تم استدعاؤه أو استيراده إلى المجتمع بالوسائل الاصطناعية أو بالأساليب التجارية، ولم يأت نتيجة تفاعلٍ طبيعيٍّ؛ وهكذا أسهم هذا الخليط أو كاد في ذوبان كل الصفات الوراثية للمجتمع الخليجي وتلاشيها، إلى المدى الذي يجعله لم ولن ينجح في بلورة ثقافةٍ سلوكيةٍ ونفسيةٍ مميزةٍ له، في ما لو كان ذلك طموحًا يعمل من أجله، بل وإلى المدى الذي يجعله لن ينجح في أي لحظةٍ من لحظات المستقبل الغامض في مجرد الخروج من هذه المعمعة الإثنية والسياسية إلا بنتائج وخيمةٍ من انتشار الجريمة والتفكك الاجتماعي وربما الصراع السياسي، وسيجد المجتمع الخليجي نفسه عاجزًا عن تحمّل ولو جزءٍ من التكلفة اللازمة لمراقبة هذا الخطر والسيطرة عليه، لدرجة أن مداخيله وموارده في ذلك الوقت ستفشل في تغطية العبء المالي لحماية مكتسباته الكونكريتية، أو أن فاتورته قد لا تُبقي شيئًا يُذكَر للحد الأدنى من مستلزمات الصراع مع الشركاء المستجلَبين، أو من تسميهم المؤسسات الرسمية بالعمالة المهاجرة، ولو من أجل فرصة البقاء، والبقاء فقط، في أحرج فترةٍ من فترات تاريخه.

الصفحات