أنت هنا

قراءة كتاب الخليج بعد النفط

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الخليج بعد النفط

الخليج بعد النفط

كتاب "الخليج بعد النفط " ، تأليف عبد العزيز خليل المطوع ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

1.2 متلازمة الاهتمام بالإنسان

الملاحظ في هذه الاحتفالية المتميزة أنها جاءت بلا ألعابٍ ناريةٍ ملوثةٍ للبيئة، وبلا صراخٍ إعلاميٍ متشنجٍ، بل انسابت في هدوءٍ كما ينساب نهر الراين الوقور، وكما يتأمل ذلك النهرَ عشاقُه والباحثون عن المتعة في مشاهدة الطبيعة وجمالها الخارق؛ كذلك احتفل بالرياضيات عشراتُ الآلاف من العقول والأدمغة الألمانية التي أصبحت الرياضيات جزءًا لا يتجزأ من تكوينها الجيني، وعشرات الآلاف من الباحثين عن متعة الابتكار في حميمية اللقاء بين رهبة الجلوس الصامت في محرابٍ من محاريب المعرفة والذكاء، وبين مغامرة ارتحال العقل والفكر في عوالمها؛ ولكن هذه المناسبة المميزة لا تتوقف عند كونها احتفالاً بالرياضيات، لأن الاحتفال مجرد مظهرٍ رمزيٍّ من مظاهر التعبير عن الإنجاز، أما جوهر الاحتفال فهو الاحتفاء بالإنسان المتفكر بحكمةٍ وإبداعٍ، والمدرك بوعيٍ ويقظةٍ، والمتحرك بإيجابيةٍ وتميُّزٍ، فأي قيمةٍ تمثلها الرياضيات أو غير الرياضيات من حقول المعرفة إذا لم تتحول من مجرد حقائق ونظرياتٍ ورموزٍ على الورق، إلى نتاجاتٍ وإلى محركاتٍ حقيقيةٍ من محركات الحضارة، مما لا يتأتى إلا بحركة الإنسان وتأثيره؛ أما إذا سقط الإنسان من حسابات الاهتمام، فإن تلك البيئة البشرية ستجد نفسها عند مفترق طريقٍ مخادعٍ، وإذا لم تبادر إلى مراجعة حساباتها، فإنها ستصبح غثائية الفاعلية، وستتبعثر حركتها في اتجاهين لا طائل من وراء كليهما، لأنها ستقع تحت تأثير إشكاليتين متلازمتين: الاهتمام بغير الإنسان، أو الإنسان بغير اهتمام·

في المجتمعات المتخلفة، أبرع من يلتقط صور انزلاقات البيئة البشرية إلى منحدر الاهتمام بغير الإنسان، ويعيد بثها مع سبق الإصرار والترصد هي وسائل الإعلام، والإعلام المتلفز منها على وجه التحديد، من خلال المساحة الموضوعية والزمنية التي تمنحها تلك الوسائل للإنسان في بيئتها الانتقائية؛ فهذه الوسائل، عندما تتعرض لإبراز جوانب التطور والتنمية، فإنها تتفنن في إلقاء الأضواء وتركيز البؤر على الجوانب المادية من الأبنية والطرق والجسور والسدود، وإبراز حتى الآثار والأشجار، في تعبيرٍ صارخٍ عن هيمنة الكونكريت والجمادات، بينما لا يكاد العقل البشري أن يُرى بالعين المجردة في إطار هذه الصورة المأخوذة من علوٍّ شاهقٍ، ما يجعل الإنسان متضائلاً وهامشيّاً ومتدني القيمة بالمقارنة بما حوله؛ بل إن شاشة هذا الإعلام ذي العين الواحدة تكاد تخلو تمامًا من رصد حركة الإنسان وهو يتعلم ويُعلّم، أو وهو يزرع ويصنع، أو وهو يخطط ويبني، أو على الأقل وهو يرسم ويلعب؛ في مفارقةٍ مثيرةٍ للغرابة، يتحيز فيها الإنسان الذي يقف وراء تلك الشاشة إلى تلك الأنصاب الإسمنتية ويتفاخر بها، بينما يتجاهل بني جنسه تمامًا، فلا يفتخر بعقولهم ولا يُعجَب بإبداعاتهم ولا يهتم باهتماماتهم·

أما أقدر من يصور انزلاقات البيئة البشرية إلى منحدر الإنسان بغير اهتمامٍ، وبمهارةٍ تُحسد عليها، فهي الصحافة، حيث الصورة والكلمة احتكارٌ يصل إلى درجة القداسة للسياسيين وكبار المسؤولين والرياضيين (نسبة إلى الألعاب الرياضية وليس إلى الرياضيات) والفنانين وفئةٍ مختارةٍ من المثقفين، مع أن هؤلاء لا يمثلون الصورة الكاملة للإنسان ولا للقيم ولا للإنجازات، بقدر ما يمثلون شريحةً ضئيلةً من الشرائح التي تمثل البقع الداكنة في إطار الحركة اليومية الشمولية للمجتمع، وهذا أيضًا بغض النظر عن العائد الحضاري الذي يجنيه المجتمع من وراء تلك الحركة التي غالبًا ما تكون عبثيةً أو هدامةً؛ أما عقل الإنسان ومشاعره ومشاركته، بغض النظر عن كونه سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو عسكريّاً أو تربويّاً أو أديبًا أو عالمًا في الرياضيات أو حتى مصممًا للأزياء، فمما لا يقع في دائرة اهتمام هذه النافذة الإعلامية الخطيرة، والمفارقة هنا تكمن في توظيف هذا المنبر المتلفع بقميص الرأي الحر، لممارسةٍ مكشوفةٍ ومبيّتةٍ في مجال التعتيم الفكري والتمييز الطبقي·

إلا أن هذه البيئة البشرية، وأيّاً ما كان الخيار الذي وقعت تحت تأثيره وإيحاءاته وتفاعلاته من الانسياق وراء هذين الخيارين أو أحدهما، فإنها ستجد نفسها مجبرةً على دفع الثمن بالتحول التلقائي والفوري إلى مستنقعٍ من البشر الذين يتحركون في بيئةٍ راكدةٍ كأي كائناتٍ حيةٍ، لا يستمدون قيمتهم إلا من قيمة الأشياء التي يستحوذون عليها، أو التي يتحركون على مقربةٍ منها؛ وبهذا العداء الصامت للإنسان في تلك البيئة الجاحدة، فإن قيمة الإنسان في معادلة التطور الحضاري- باعتباره أهم ركائزها ككيانٍ وكتأثيرٍ وكتفاعلٍ إنتاجيٍّ- ستكون ما تزال أقرب ما تكون إلى الصفر، يقول الدكتور عبدالكريم بكار: السبب الأساسي في ضعف الأفراد لا يعود إلى تواضع المواهب والقدرات، وإنما يعود إلى ضعف الإرادات واضطراب الرؤية للذات والمحيط، أما الشعوب والمؤسسات والهيئات، فإن مشكلاتها لا تكمن في شح الموارد والإمكانات، وإنما في سوء إدارتها والفساد الذي ينخر في عظامها(3)·

الصفحات